“ميلانكوليا”: لارس فون ترايير وفكرة نهاية العالم

كثير من السينمائيين تناولوا موضوع نهاية العالم، أي دمار الكوكب الأرضي ونهاية الحياة البشرية أو “يوم القيامة”، حينما تصطدم النجوم والكواكب وينتهي الكون.
غير أن هذا الموضوع الذي ظل يثير شهية الروائيين وكتاب الخيال والسينمائيين طويلا، وعادة ما يتم تناوله في السينما من خلال أفلام يغلب عليها الإبهار، وتتسيد فيها المشاهد الهائلة المثيرة التي تمتليء بالفوضى وتثير الرعب، وتلعب المؤثرات البصرية والصوتية دورا رئيسيا في هذا النوع من الأفلام “الخيال المستقبلي” التي تسعى أساسا، لجذب المتفرجين بالإثارة والحركة والمبالغات الخيالية.
والملاحظ أنه خلال الفترة الأخيرة بدأ عدد من السينمائيين “الجادين”، أي أولئك الذين يمتلكون “رؤية” خاصة للعالم، أو أصحاب الفلسفة الخاصة من وراء التعبير السينمائي من خلال ذلك الوسيط السحري المسمى “فيلم سينمائي”، بدأوا يتجهون للتعبير أيضا عن فكرة نهاية العالم، ولكن من خلال أفلام تختلف كلية عن أفلام هوليوود  المألوفة من النوع المبهر المعروف بـ blockbuster
من بين هؤلاء المخرج الدنماركي الشهير المثير للجدل لارس فون ترايير الذي قدم لنا مؤخرا فيلمه الجديد “ميلانكوليا” (أو كآبة).
ولعل الملفت للنظر بقوة في هذا الفيلم أنه أولا لا ينطلق من مدخل تقليدي لتناول موضوع نهاية العالم، أي أنه لا يركز على الظواهر الخارقة، لكنه، بدلا من ذلك، يتعامل مع موضوعه من خلال التركيز على “الأسرة”، وعلى العلاقات داخها، وعلى عزلة الفرد في المحيط الاجتماعي الأشمل، وردود فعل الأفراد إزاء كارثة يعرفون أنها باتت قريبة للغاية منهم، وأصبح أمرهم بالتالي محسوما.. أي أنهم يعلمون أن عالمهم بأسره مقضي عليه بالزوال.

فيلم ميلانكوليا

يبدأ الفيلم في مكان غير محدد، قد يكون أمريكا أو الدنمارك أو أي مكان في النصف الشمالي من العالم.
هناك حفل زواج واستعدادات تتميز بالبذخ والثراء الواضح لاستقبال العروس التي يتأخر وصولها كثيرا. والعروس هي “جوستين” (كريستين دانسيت) التي تسعى للوصول للحفل مع زوجها مايكل (الكسندر سكارسجارد). أما الحفل الكبير فقد أنفق عليه شقيق زوجها الذي هو في الوقت نفسه، رئيس شركة للدعاية تعمل لحسابها جوستين عارضة (موديل).
وفي الحفل تلتقي كريستين بشقيقتها “كلير” (شارلوت جينسبرج) التي تختلف عنها تماما، سواء في الملامح أو في السلوك. فبينما تبدو كريستين هادئة الملامح، والانفعالات، تبدو كلير مهتاجة شديدة التوتر. وتلتقي جوستين ايضا بوالدتها (شارلوت رامبلنج) ووالدها (جون هيرت) والاثنان منفصلان منذ زمن، وهنا تشيع الأم في المكان جوا من الفوضى كمقدمة للتوتر الكامن تحت السطح والذي سيتصاعد الى أن نصل للنهاية الصادمة.
جوستين لا تشعر بالراحة بل تنعزل داخل دورة المياه تشعر بالغثيان. وهي تردد أنها “تعرف أشياء” فهي تستطيع بحدسها الداخلي أن تدرك أن هناك كارثة محدقة توشك على الوقوع. كما أنها ترى خيالات تتراءى لها، لكنها لا ترىاها مجرد خيالات أو تخيلات وكوابيس بل اشارات صادرة اليها من ذلك الكوكب العملاق “ميلانكوليا”. أما شقيقتها كلير فهي لا تريد ان تصدق أن الكارثة قادمة بل وتبدو مشغولة بتصفية حسابات مع شقيقتها. ومدير الشركة الذي دفع كل هذه الأموال من أجل اقامة الحفل يريد من جوستين أن تحافظ على ابتسامتها ورونقها أمام الكاميرات فهو على الأرجح، سيستغل الحفل في فيلم دعائي لشركته. والجو العام بأكمله يمتليء بالنفاق والكذب والتمثيل والادعاءات ولذا تفر العروس وهي في ملابس العرس البيضاء إلى الطبيعة، تحاول أن تتنفس ولو للمرة الأخيرة، هواء نقيا في الغابة المجاورة للقصر.. تتخلى عن زوجها في نفس ليلة زواجها قائلة له بكل سخرية عندما يبدي دهشته من سلوكها: “وماذا كنت تتوقع”؟
إنها مصابة بحالة من الاكتئاب وكأن اقتراب ذلك الكوكب الغريب الذي أطلق عليه فون ترايير “كآبة” يضفي الشعور بالكآبة على الأرض. ولكن على العكس من شقيقتها كلير، تبدو جوستين في النصف الثاني من الفيلم وقد أصبحت أكثر استسلاما للقادم ولا أقول أكثر هدوءا، في حين أصبحت كلير أكثر اهتياجا واحساسا بالخطر الذي كانت تستنكر وجوده.
يبدأ الفيلم بمشهد سيريالي بديع يستغرق ثماني دقائق نرى فيه جوستين وهي ضائعة بفستانها الأبيض الطويل وسط مساحة خضراء تبدو كما لو كانت أحد ملاعب الجولف.. شقيقتها كلير تحمل طفلا رضيعا.. طيور جميلة رقيقة تتداعى وتهبد من السماء ميتة.. الأرض الخضراء تتحول الى مساحة ممتدة من الرمل مليئة بالطيور الميتة، هذا المشهد ينتهي باصطدم كوكب “ميلانكوليا” بكوكبنا الأرضي بينما نسمع صوت الاصطدام المروع وهو ما سنعود لنراه في النهاية.
كعادته، يستخدم فون ترايير هنا الأسلوب الكلاسيكي الرصين في تحريك الكاميرا، وينتقل منه الى الأسلوب المفاجيء الذي يعتمد على تحطيم المنظور أو اهتزازه، أي على الكاميرا المتحركة المحمولة التي ركز على دورها في اشاعة أجواء واقعية، من خلال منهج مدرسته “دوجما 95” Dogma 95 ويعود أيضا الى التركيز على الأداء التمثيلي الذي توجد في بؤرته هنا بالتأكيد، كريستين دانسيت التي تبدو في هذا الفيلم وقد قطعت ألف ميل في رحلة نضجها. إنها تعبر بالنظرات وتعبيرات الوجه والايماءات الخاصة وحركة الجسد في فضاءات المشاهد، وتبدو كما لو كانت تخفي شعورا داخليا بالرغبة في الهرب من مواجهة اللحظة بالانتحار. لكن من ينتحر فعلا هو زوج شقيقتها الذي يجدون جثته في بحيرة قريبة من ذلك القصر أو الفندق الفخم الذي تجري فيه مراسم العرس.

فريق الفيلم

غريبة مشاهد هذا الفيلم الذي يريد أن ينقل الينا أجواء كابوسية ترتبط بفكرة نهاية العالم وتوقف الحياة على كوكبنا الأرضي، ولكن من خلال أجواء مكتومة، وانفعالات تكمن تحت جلد الشخصيات، برقة ظاهرية، ووحشية داخلية تمزق أنفسنا وتنقل الينا حالة الرعب الداخلي الذي يشل المرء فيجعله عاجزا حتى عن الصراخ. وهذا هو سحر الفيلم وجوهره وسر تميزه.
إنه في رأيي، الفيلم الأول الذي يخرجه لارس فون ترايير منذ فيلم “تحطيم الأمواج” (1986) الذي يمتليء بكل هذا الحزن النبيل، والقلق الانساني الذي يشترك فيه المتفرج مع بطلتنا “جوستين” التي تبدو أقرب إلينا بمشاعرها ورقتها، بضعفها وتماسكها الظاهري في آن. وكما يبرع فون ترايير في تحريك الممثلين والنحكم في أدائهم، يبرع أيضا في اختياره الموسيقى وتوزيعها على مدار الفيلم، وهي تعكس ببراعة أجواء التوتر والقلق المكتوم.
“ميلانكوليا” حتى الآن، هو أفضل أفلام الكوارث الكونية رغم أنه لا يصور الكارثة باستثناء تلك اللقطة الوحيدة التي يقترب فيها ذلك الكوكب الغامض العملاق من الأرض ولا نراه، بل نشعر باصطدامه بكوكبنا ونسمع صوت ذلك الارتطام العظيم، ونرى ظلام الشاشة كما لو كنا ونحن جالسون في دار العرض السينمائي، قد أصبحنا جزءا من “العرض” أي أننا نشهد أيضا دمارنا ونهايتنا.
ولاشك أن سحر هذا الفيلم يكمن في تلك القدرة على توليد كل تلك المشاعر والأحاسيس من خلال عمل لا يدعي ولا يتحذلق ولا يستخدم طريقة استعراض العضلات للابهار.


إعلان