فيلم “تحرير 2011” وحلم التحرير الكامل
لو اشتعلت الثورة في إيران غداً ستجد أن الشبيبة من السينمائيين الإيرانيين سيغزون الساحات بكاميراتهم وسيكونون على استعداد كامل لالتقاط أنفاس الثورة من بدايتها إلى نهايتها. هذا في الواقع سهل، وعدد من شباب السينما المصرية فعل ذلك خلال الأيام التي اندفع فيها مئات الألوف يرصفون المستقبل بأجسادهم ومشاعرهم وبكل ما أوتوا من عزائم.
المرحلة اللاحقة هي الأصعب. نجحت الثورة فماذا بعد؟
ميزة السينما الإيرانية على زميلاتها العربية أن صناعتها مزدهرة في أوقات ما قبل الثورة. إيران تطلق سنوياً ما بين 50 و70 فيلماً نصفها- على الأقل- يعرض في الصالات والإقبال عليها مرتفع فالعادة الغالبة لا زالت الذهاب إلى صالات السينما وبما أن هناك شروطاً وتدابير حول ما تعرضه الصالات من أفلام فإن معظم هذا الإقبال يذهب لصالح السينما الإيرانية ما يجعلها مكتفية ومربحة ومستمرة.
مثل هذه السينما تستطيع أن تستمر من دون عوائق، وأن تنتقل من الحذر من الرقابة عليها إلى التجاوب مع معطيات ثورة ما أو أي تغيير نظامي يحصل من دون عوائق إنتاجية.
في المقابل، لا توجد خطوات فعلية لتحقيق أفلام روائية تتناول ما عاشته مصر من مطلع العام إلى اليوم. حسب مجلة “روز اليوسف”، فإن هناك ثلاثة مشاريع من هذا النوع تم الإعلان عنها ثم توقّفت دون إنجازها: “الميدان” لمجدي أحمد علي و”بلطجة يناير” (الذي لا يتم ذكر مخرجه) و”بعد الطوفان” (لا ذكر لمخرجه).
إلى جانب أنه سوف لن يكون مستغرباً أن لا تدور هذه الأفلام عن الثورة، بل تأتي على ذكرها عبر مشاهد تسجيلية، فإن المسألة هي أبعد من ذلك: هل السينما المصرية بكاملها مستعدة لتغزل نسيجاً جديداً مناسباً؟ هل هي مستعدة للإدلاء بدورها في سبيل تعزيز التغيير المطلوب لمجتمع رضخ تحت قسوة النظام السابق وإهماله؟ ثم هل هناك من إمكانية أن ترتفع هذه الأفلام عن الدوران حول “من ضرب ومن هرب” وعن التعامل مع روح الانتقام؟ يتطلّب الأمر منظوراً مختلفاً فهل هو موجود؟
إلى الآن، فإن الأفلام التسجيلية هي التي سبقت في عرض ما حدث.
في البداية كان هناك “18 يوم” الذي أخرجه عشرة مخرجين مصريين مختلفين بعضهم انخرط في المهمّة كونه لا يريد أن يبقى بعيداً عنها، وكما نعلم جميعاً، تم عرض الفيلم في مهرجان “كان” الماضي وسط اهتمام تمخّض عن تباين في الآراء.
في مهرجان فنيسيا الأخير تم عرض فيلم تسجيلي آخر (والتسجيل غير التوثيق) بعنوان “تحرير 2011” يتألّف من ثلاثة أفلام قصيرة. الأول بعنوان “الطيّب” لتامر عزّت، الثاني “الشرس” لأيتان أمين والثاني “السياسي” لعمرو سلامة.

“التحرير” في مجمله يتناول ثلاث مواقع في أفلامه الثلاثة: المتظاهرون ومطالباتهم، رجال الأمن وشراستهم ثم حسني مبارك كدكتاتور. وفي حين ينجز الفيلم الأول بانوراما واسعة للمتظاهرين ليست جديدة الصور بقدر ما ملتحمة ومولّفة على نحو جيّد، يتناول الفيلم الثاني الموقف الصعب لرجال الأمن: هم رجال أمن لديهم أوامر اعتادوا على تنفيذها وأمامهم شعب يريد استبدال من أصدر تلك الأوامر، وبذلك هم في الوسط تماماً. أحد الذين تحدّثت الكاميرا إليهم يحاول الدفاع عن دوره، لكن ذلك ما يمنح الفيلم “السكوب” الواسع الذي ينشده.
الجزء الثالث هو عن تلك العناصر العشرة التي عمد إليها النظام للحفاظ على نفسه وفي مقدّمتها “صبغة الشعر” ومنها انتشار الاسم والأغاني والحديث عن العدو الوهمي والأمن والقانون وصولاً إلى الإنكار. كل شيء مباشر هنا لكنه متوقّع لأن مثل هذا الفيلم يرد في أجندة كل ثورة أو ثورة مضادة. السينما كثيراً ما خدمت نظاماً مُعيّناً وحين اختلف خدمت النظام البديل. كذلك هي عادت نظاماً وحين تغيّر عادت النظام الجديد أيضاً.
في الأجزاء الثلاثة ميل إلى المقابلة كمفتاح للمعرفة أو لفتح المواضيع المغلقة والآراء المختلفة. في الفيلم الأول إحاطة فعّالة بالتيارات التي نزلت إلى الشارع. تحديداً ثلاث شخصيات من ثلاث فئات طبقية وسياسية مختلفة يتداول الفيلم وإياهم مشاعرهم ورؤاهم ومنطلقاتهم. بينما يعرض الفيلم الثاني موقفين متشابهين حين يبحث في وضع رجال الأمن من الثورة ويستمع إلى دفاعاتهم، إلى جانب عدد من المتحدّثين الذين يشرحون أين يلتقون وأين يختلفون مع تلك الآراء.
هذا الفيلم الثاني للمخرجة أيتان إيمان أكثر تفننا و- إلى حد معيّن- أفضل شغلاً من الفيلمين الآخرين. خصوصاً وأن الفيلم الثالث مال صوب السخرية. ليس هناك عيب في ذلك، لكن الترفيه الناتج عنه يكاد يؤثر على مستواه. ما يتميّز به الحديث الشيّق عن تلك العناصر العشرة التي يراها الفيلم سمات الفترة المباركية السابقة.