“الإعلان” التجاري في قلب الفيلم الوثائقي
يواصل مخرج الافلام التسجيلية الأمريكي مورغان سبورلوك في فيلمه الجديد “أعظم فيلم مبيعا حتى اليوم”، والذي يعرض حاليا في عدة دول اوربية، الاسلوب ذاته الذي ميز فيلميه التسجيلين السابقين، (سوبر سايز مي، 2004)، (في أي مكان في العالم اسامة بن لادن؟، 2008)، بتجنبه الاسلوب التقليدي في مقارباته لموضوعاته بانشغالاتها الشعبية الراهنة، مستعيضا عنه بتجربة حقيقية، يبتكرها هو نفسه. ستكون لها حياتها الخاصة خارج المشروع السينمائي، الذي يسجل في معظمه ردود أفعال واستجابات على “التجربة” تلك. المخرج هنا لا يكتفي بالفكرة فقط، بل يكون في قلب هذه التجربة السينمائية وأحيانا بطلها الوحيد. فهو سيكون “فأر التجارب” لفيلمه (سوبر سايز مي)، والذي أطلق شهرة المخرج العالمية، عندما يقرر أن يقتصر نظامه الغذائي، ولشهر كامل، على الأطعمة السريعة التي تقدمها سلسلة مطاعم (ماكدونالد) الأمريكية. وهو الذي سيبدأ رحلة حول العالم، للبحث عن أسامة بن لادن في فيلمه (في أي مكان في العالم أسامة بن لادن؟). والذي على الرغم من السخرية التي يتضمنها الفيلم، يوجه انتقادات حادة، وبكل الاتجاهات، للدول والنظم الاجتماعية، التي مهدت أو تغاضت عن الأفكار العنيفة التي يحملها بن لادن وتنظيمه القاعدة. وأيضا، يسخر من الخوف الذي ضرب العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والذي جرى تسخيره للترويج لحروب مدمرة، ولسياسيات تخللتها أخطاء وعنصريات.
ومقارنة بوضوح الغاية التي اتسم بها الفيلمان السابقان للمخرج (نقد مطاعم الأكل السريع في الأول، والإهمال في القبض على زعيم القاعدة، حتى ذلك الوقت، في الفيلم الثاني)، يتعثر الفيلم الجديد في تَّبْيينُ هدفه. حتى أن الفيلم نفسه، يسخر من تعقيد الموضوع بمشاهد تتضمن توليفا كوميديا سريع، للشخصيات العديدة التي تمر في الفيلم، والتي تبدو عاجزة في لقائها الأول مع المخرج عن فهم مقصد المخرج وفريقه من التجربة التسجيلية التي يعتزمون البدء بها. فالفيلم يرغب في كشف النتائج السياسية للإعلان التجاري في الأفلام والمسلسلات. وليس المقصود هنا، الإعلان الذي يظهر قبل عرض الأفلام في الصالات السينمائية، أو ذلك الذي يتخلل الأفلام والمسلسلات أثناء عرضها التلفزيوني، بل الإعلانات “المبطنة” التي تظهر أثناء أحداث الفيلم نفسه، وتروّج لعلامات تجارية معينة، فاختيار هاتفا محمولا من نوع معين لشخصية ما في الفيلم، لا يتم هكذا، بل يسعى الفيلم للتعاقد مع شركة هواتف معينة، لعرض هاتفها في مشهد واحد، أو عدة مشاهد، وحسب اتفاقات معقدة ترتب بين إستديوهات سينمائية وشركات تجارية مختلفة.

وكان من الممكن للموضوع فيلم (أعظم فيلم مبيعا حتى اليوم) أن يكون أكثر تعقيدا للمشاهد العادي، لولا “هوس” محطات التلفزيون في السنوات الأخيرة، بتغطيتها لكل الشعارات التجارية، التي تظهر في البرامج والتحقيقات التلفزيونية، ومؤخرا في برامج تلفزيون الواقع، والتي يبدو أن المحطات تلك، قد فشلت في إبرام اتفاقات مع الشركات التي تظهر علامتها بالصدفة في تلك البرامج. الأمر الذي جعل العين المدربة، تنتبه إلى علامات تجارية تظهر بشكل واضح في سياق الأعمال الفنية.
تكشف لقاءات مع مخرجين ومنتجين في هوليويود، وعرضها الفيلم في ثلثه الأخير، الضريبة التي تدفعها الأعمال الفنية أحيانا للحصول على تلك الإعلانات، والتي أضحت مداخليها مهمة في حساب التكلفة الإنتاجية لتلك الأعمال. فشركات الإعلان لا تكتفي غالبا بعرض منتجاتها هكذا، بل تملك شروطا تصل إلى العملية الفنية ذاتها، بل تملك أحيانا نفوذا يجعلها قادرة على تغييرات في السيناريو، بحدود التي تراها تلك الشركات، مناسبة للمبالغ المدفوعة في تلك الإعلانات.
اختار المخرج أن يعرض لقاءات “أهل المهنة”، ورغم أهميتها في تفسير دوافع إنتاج الفيلم، في نهاية الفيلم، عوضا عن بدايته، التي جاءت مرتبكة كثيرا، وجنحت إلى التكرار، بسبب تعقيد المشروع الذي أطلقه الفيلم، بمحاولة الحصول على إعلانات تجارية تعرض ضمن الفيلم التسجيلي (أعظم فيلم مبيعا حتى اليوم)، والذي يتناول الإعلان التجاري “المبطن” في السينما. لكن، ورغم شعبية العملين السابقين للمخرج في الولايات المتحدة وأوربا، رفضت أغلب الشركات الكبيرة، التعامل معه، واعتبرت المشروع مبهما، ولا يناسب “صورة” البضائع التي تنتجها.
في النهاية ينجح المخرج في الحصول على عقود من شركات صغيرة، قدمت ما يقارب المليون دولار من الأموال مقابل استخدام منتجات من تلك الشركات في الفيلم التسجيلي. وتقدم الاجتماعات التي يعقدها المخرج والشركات المعلنه، نموذجا لما يمكن أن يشبه اجتماع أستوديو سينمائي كبير مع شركة عملاقة. وكيف تتعقد قائمة المطالب وتطول مع قيمة المبلغ الذي يجلبه الإعلان. فشركة عصير الرمان التي قدمت المبلغ الأكبر للفيلم التسجيلي، اشترطت أن يشرب المخرج مورغان سبورلوك عصيرهم وعلى طوال الفيلم، كما اشترطت أن يكون العصير موجودا في كل اجتماع قادم للمخرج مع شركات أخرى. المخرج بدوره سخر من القواعد تلك، وذكّر بها في مشاهد كوميدية عديدة.
الفيلم مر سريعا على سياسية الإعلان بمجملها في الولايات المتحدة الأمريكية، والنفوذ الذي تملكه شركات الإعلان على الحياة اليومية هناك. فقدم مشاهد من احد المدارس الإعدادية الأمريكية، والتي جهزت كل صف منها بجهاز تلفزيون يعرض إعلانات بين الدروس التي تقدمها المدرسة. تغطي جدران المدرسة ذاتها، إعلانات أخرى، أصبحت مداخليها، مهمة في النظام التعليمي الأمريكي، رغم الأثر الذي تتركه بعض المنتجات التي يروج لها في المدارس على صحة ووعي التلاميذ هناك.
تشبه الأفلام التسجيلية التي يقدمها المخرج مورغان سبورلوك، تلك التي يقدمها زميله المعروف مايكل مور، بمرجعياتها التلفزيونية، وكوميديتها وحضور المخرج الطاغي فيها. لكن طموحات مايكل مور وقدرته الإنتاجية وإخلاصه لمثال ونموذج سياسي واجتماعي معروف، جعلها أكثر قدرة على الإحاطة بالمواضيع التي تنشغل عليها وبالتالي الانتهاء إلى خلاصات أكثر فعالية. في حين يشير تعثر الفيلمين الأخيرين لمورغان سبورلوك، إن الظاهرة التي مثلها، كرجل أمريكي عادي يملك الكثير من الغضب على ما يجري في بلاده، تحتاج إلى مراجعة جدية، ربما تشمل أسلوب عمل المخرج نفسه. والقيود التي تفرضها أحيانا “تجاربه” المثيرة للجدل.