باريس عاصمة سينما الفنّ، والتجربة

السينما نافذةٌ مفتوحةٌ على العالم
أندريه بازان ـ ناقد سينمائيّ فرنسي

إذا تخيلنا السينما وطناً، أتوقع بأن تكون باريس عاصمته، صحيحُ بأنّ الأستوديوهات الباريسية تنافست في فتراتٍ سابقة، وخلال وقت قصير، مع نظيراتها الأمريكية، ولكن، بالإضافة إلى كونها المدينة التي يُنتج فيها أكبر عددٍ من الأفلام، فقد أصبحت الأكثر إيثاراً لعشاق السينما، وبفضلهم، تحتفظ بذاكرتها، تكتشف تاريخها، وتُقيم حواراً مثمراً مع الفنون الأخرى.
في الحقيقة، لا يوجد مدينة أخرى في العالم تمنح سكانها، وزائريها هذا الكمّ من الأفلام، والأنواع من بدءا بالأكثر جماهيريةً، وصولا إلى سينما المؤلف.
وبالمُقابل، يجد المخرجون فيها مصدر إلهام، وتشجيع الجمهور، وتحظى باريس على هذه المكانة بفضل شبكة صالاتها، واحدةٌ من الشبكات الأكثر قدماً في العالم، يُديرها أشخاصٌ عاشقون منحوها أهدافها النبيلة، وتشاركوا في أحلامهم مع أجيالٍ من هواة السينما، ونفخوا روحاً في أماكن أسطورية.
اليوم، تستمرّ هذه المغامرة الجميلة، وتتواصل، ومنذ الخمسينات، طورت صالات الفنّ، والتجربة مبادراتٍ نُجيب على متطلبات، وأذواق جمهور تتزايد طلباته يوماً بعد يوم..
هذه الصالات، حارسات الذاكرة، لم تتقاعس يوماً في الاندفاع نحو المستقبل، فقد تمّ تحديثها، وتقدم اليوم شروط استقبالٍ، وتجهيزاتٍ تثير حسد الشبكات الكبرى، وهي دائماً في حالة بحثٍ عن التجديد، فقد ساهمت في السنوات الأخيرة باكتشاف مخرجين فرنسييّن شبان، ومشارب سينمائية جديدة، وبشكلٍ خاصّ، السينمات الأسيوية، والإيرانية. تحتاج باريس أكثر من أيّ وقت مضى لحضور هذه الصالات فيها، وهي ركيزة لا يمكن الاستغناء عنها لإثراء الحياة الثقافية في الأحياء. هي عادةً صالاتٌ صغيرة، تتوزع في عموم التقسيمات الإدارية الباريسية، ولكنها، تتجمع بشكلٍ خاصّ في وسط العاصمة (الدائرة الثالثة، الرابعة، الخامسة، والسادسة).

سينما MK2 Beaubourg

في عام 2000 كانت باريس تحتفي بأربعين قاعة بمجموع 90 صالة، كلّ واحدة منها تمتلك خطةً برمجية خاصة، ومتفردة. وفي عام 2011 بقيت المدينة تتفاخر بنفس العدد، إشارة بأنها مازالت عاصمة سينما الفنّ، والتجربة على الرغم من قلق خطورة زحف المُجمعات السينمائية الكبرى.
في هذه القراءة التوثيقية، سوف أسلط بعض الأضواء على هذه الأماكن، وخصوصية كلّ واحدةٍ منها.
 
K2 Beaubourg

تمركز في المنطقة الإدارية الثالثة على بعد خطواتٍ من “مركز جورج بومبيدو”، وتتكوّن من 6 صالات تتميز بعروض صباحية لأفلامٍ قديمة من كلّ أنحاء العالم، وتقدم في مواعيدها الاعتيادية مختاراتٍ من الأفلام الجديدة، كما تهتمّ بتنظيم حلقاتٍ متنوعة جداً حول مخرجين، ممثلين، وتيماتٍ، ولقاءاتٍ احترافية بالتعاون مع مجلاتٍ، ومؤسّساتٍ متخصصة.
 
Le Nouveau Latina
تقع في المنطقة الإدارية الرابعة، وهي منذ عام 1984 مخصصة لسينمات البلدان اللاتينية (الأسبانية، الفرنسية، الايطالية، البرتغالية، الرومانية،..)، وتتكوّن من ثلاث صالاتٍ، قاعة للفنّ التشكيلي، مقهى، وصالة للرقص.
كما تقترح أفلاماً جديدة، وحلقات من الكلاسيكيات الكبيرة، وأفلام المخرجين الشباب، وفي نفس الفضاء، يستقبل “غاليري رينوار” معارض لفنانين من الدول اللاتينية.

Accatone

تقع في المنطقة الإدارية الخامسة، صالةٌ وحيدةٌ كانت فيما مضى كباريه بدأت فيه المسيرة الفنية لبعض الفنانين، ومنهم “إديث بياف”، كما استقبل البدايات الأولى للتعريّ . في عام 1957 أصبح صالة باسم “ستوديو كوجاس”، سينما لـ”فرانسوا تروفو” ثمّ “غي ديبور”، وفي عام 1987 دشنّ فريقٌ جديد المكان، ومنحه اسم ” Accatone”(أول فيلم لبازوليني). يحوي هذا المبنى صالة سينما، قاعة عرضٍ للفنون التشكيلية، مكتبة، ومقهى يلتقي فيه المخرجون، الرسامون، الممثلون، الكتاب، والفلاسفة. وبالإضافة لبرمجتها الاعتيادية المُتفردة، فهي تحتفي حالياً بأفلام المخرج الإيطالي “بيير باولو بازوليني”.

Le Desperado

في المنطقة الإدارية الخامسة، كانت سابقاً تحمل اسم (Action Ecoles)، وتعتبر مكاناً يجمع الشباب، وبشكلٍ خاصّ الطلبة الذين يحبون الصالات الصغيرة، والحميمة في الحيّ اللاتيني، تتكوّن من صالتيّن، وتقترح إستعادات لمخرجين، وممثلين، أو تيمات. الصورة الكبيرة لـ”مارلين مونرو” فوق عجلة والتي تُزين واجهة الصالة الكبيرة، تُذكرنا بأنّ مؤسّسها كان أيضاً تاجر عجلات. وهي تحتفي حالياً بالأعمال الكبرى من السينما الفرنسية، وتقدم برنامجاً لبعض أفلام المخرج الفرنسي “جان بيير موكي”.

 Le Champo

في المنطقة الإدارية الخامسة، منذ عام 1938 وحتى اليوم استقبلت هذه القاعة التي تحتوي على صالتين صغيرتين ملايين المتفرجين، وكانت واحدة من الأماكن المُفضلة عند سينمائيّ الموجة الجديدة، تبرمج صالتيها إستعاداتٍ للأفلام الكبرى القديمة، وتكريماتٍ موجهة نحو القضايا الحالية، في عام 2000 تمّ تسجيلها في قائمة المباني التاريخية التراثية.

ÉPÉE DE BOIS

تقع في المنطقة الإدارية الخامسة، وأنشئت في عام 1978، وهي مُكوّنة من صالتيّن، وتعتبر واحدة من سينما الأحياء الحميمة، وبالآن ذاته مخصصة لأفلام الفنّ، والتجربة، ويتجسّد ذلك عن طريق برمجة حاذقة موجهة نحو المخرجين المُعاصرين.
لا تدعي هذه القاعة بأنها سينما “بديلة”، ولكن، تعلن اختلافها من برمجة الأفلام المُتوفرة، والأكثر اعتيادية (رُبما هي جريئة اليوم، وسوف تصبح غداً من الكلاسيكيات)، كما تُنظم حلقاتٍ سينمائية، ولقاءاتٍ مع المخرجين تجعلها مكاناً ينشط بإستمرار في واحدٍ من الأحياء الأكثر حيوية في العاصمة، وكما حال معظم صالات الفنّ، والتجربة، فإنها تقيم معارض دائمة لفنانين تشكيليين شباب.

ESPACE SAINT MICHEL

منذ بداياتها في عام 1912 استقبلت (سينما سان ميشيل) ملايين المتفرجين حتى غرقت في الظلام عام 1988 بسبب تفجير إرهابيّ نفذته جماعة متطرفة،… في عام 1991 عادت القاعة إلى نشاطها تحت اسم (فضاء سان ميشيل) يحتوي على صالتين مخصصتين لعرض سينما المؤلف، وتنظيم أحداث سينمائية، والكشف عن موهبة السينمائيين الجدد من كلّ أنحاء العالم، وأفلام مخرجين ما تزال أعمالهم قليلة التوزيع في فرنسا.

CINÉMA DU PANTHEON

صالة سينمائية منذ عام 1907، وهي تعتبر واحدة من أقدم الصالات في باريس، وأكثر من ذلك، مازالت تحتفظ بشرفة (بلكون)، وقد ظلت لمدة 60 عاماً ملكاً للمنتج الفرنسي “بيير برونبرجيه”.
تقع على بعد خطواتٍ من ساحة السوربون، وتقترح برمجة أفلام من كلّ البلدان، وبشكلٍ خاصّ سينماتٍ غير معروفة بشكل جيد، أو غير معروفة أبداً، وتقدم أفلام مخرجين جدد تتداخل مع أعمال آخرين معروفين، كما تنظم إستعاداتٍ، ولقاءاتٍ مع محترفي السينما.

Filmothèque du Quartier Latin

في بداية القرن التاسع عشر، كانت هذه القاعة كباريه، وفي عام 1930 أصبحت صالة مسرح، وفي نهاية الخمسينيّات تحولت إلى صالةٍ سينمائية تحت اسم (الحيّ اللاتيني) المكان المُفضل لمخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، وفي عام 1985 أنشئت فيها صالة ثانية تحت الأرض.
اشترتها شركة “يوتوبيا”، وتمّ إدراجها في قائمة صالات الفنّ، والتجربة، ومنذ عام 1997 امتلكتها شركة أخرى، ولكنها احتفظت باستقلالية برمجتها، وظلت بصالتيّها، ولفترةٍ طويلة، مكاناً لاكتشاف السينما الإيرانية، والإسبانية بالإضافة لإستعادات، وأفلام جديدة من سينمات الماضي، والحاضر.
ومع أنها كانت مُدرجة في صالات الفنّ، والتجربة في دليليّ عام 2000 و2001 إلا أنها اختفت من قائمة “الجمعية الفرنسية لسينمات الفن، والتجربة”، مع أنها الأكثر نشاطاً في هذا الصدد.
في صالتها الزرقاء تقدم حالياً احتفاءً بأفلام أكيرا كوروساوا، أودري هيبورن، بيدرو ألمودوفار، ستانلي كوبريك، تيرانس ماليك، بينما تقدم صالتها الحمراء تيمةً بعنوان “نيويورك من وجهة نظر السينما”.

GRAND ACTION

تقع في المنطقة الإدارية الخامسة على مقربةٍ من جامعة جوسيو، كانت فيما مضى صالة قديمة لمُمارسة “لعبة قذف كرة بكف اليد نحو حائط”، ومكاناً لحالات التعبئة العامة أيام الثورة، أصبحت في بداية القرن التاسع عشر صالة قديمة للفنّ، والتجربة تحت اسم (سيلتيك)، ثم حملت اسم الشاعر، والسينمائي “جان كوكتو”، يتكوّن المبنى من صالتين، الصالة البانورامية المُسمّاة “هنري لانغلوا”، مهداة لمُؤسس السينماتيك الفرنسية، وفي واجهتها نشاهد البورتريه المُوقع من طرف الرسام “فابيو رييتي”، ثم صالة “هنري جينيه” فنانٌ تشكيليّ من مؤسّسي حركة الفنّ، والتجربة.
تعتمد البرمجة على إعادة عرض الكلاسيكيات القديمة بنسخٍ جديدة، كما تستقبل أسابيع الأفلام، والمهرجانات المحلية.

LA CLEF

في المنطقة الإدارية الخامسة على بعد خطواتٍ من جامعة سان سييه، منذ تأسيسها في عام 1990 تهتم هذه القاعة بصالتيّها بعرض السينمات الأفريقية، وتنظيم الإستعادات، والمهرجانات، وبفضل انفتاحها السينمائي وجدت القاعة مكانها في قلب الثقافة السينمائية، ونسجت علاقاتٍ مع الطلبة، والجمعيات المُتخصصة.

REFLET MEDICIS

تقع في المنطقة الإدارية الخامسة، وتجمع ثلاث صالاتٍ متخصصة في العروض الإستعادية، وأسابيع الأفلام، والأفلام الجديدة. تهتمّ بالأفلام النوعية من كلّ الجنسيات، حالياً يمكن مشاهدة إستعاداتٍ لمخرجين مثل راؤول رويز، لارس فون تريير، وشوجي إيماموا.

STUDIO GALANDE

في المنطقة الإدارية الخامسة، صالةٌ وحيدةٌ تحت الأرض، تعيش حياتيّن، حيث تقدم خلال أيام الأسبوع حوالي 25 فيلماً، وفي ليالي العطلات الأسبوعية، ومنذ عشرين عاماً، يأتي المُعجبون إليها للمُشاركة، والاحتفال ب  Rocky Horror Picture Show، حيث يشاهدون الفيلم الذي أخرجه “جيم شارمان” عام 1975 عن كوميديا موسيقية لـ”ريتشارد أوبريان”، ويمارسون طقوساً احتفالية، ينشدون مقاطع، ويرددون حوارات، ويحاكون شخصيات الفيلم، هذه الحالة السينمائية الغريبة رُبما تحتاج إلى قراءة تعريفية لاحقة.

هامش :
المعلومات الأرشيفية الواردة في هذه القراءة مأخوذة من دليلٍ بعنوان “باريس، عاصمة صالات الفنّ، والتجربة” صدر في عام 2000 بمناسبة تظاهرة سينمائية كبرى بنفس العنوان، وتمّ مقارنتها، ومراجعتها مع المعلومات المُتوفرة حالياً في موقع “الجمعية الفرنسية لصالات الفنّ، والتجربة”، والدليل الإعلاني الأسبوعيّ (L’Officiel des Spectacles).


إعلان