الطاهر وطار … آخر الكلام

رصد للجانب الإنساني، استرجاع لشريط الذكريات و استحضار لآخر اللحظات 
ضاوية خليفة 

الراحل الطاهر وطار

بحضور عدد من الأسماء الأدبية، الوجوه السينمائية و جمع من الصحفيين قدم الإعلامي و المخرج الجزائري محمد الزاوي باكورة عمله الوثائقي الجديد الموسوم ب” الطاهر وطار آخر الكلام ” و الذي خصصه و أهداه إلى الأب الروحي للأدب الجزائري ” الطاهر وطار ” إذ تم  عرضه لأول مرة بفضاء “ألف نيوز و نيوز” التابع لجريدة “الجزائر نيوز”، حيث انفردت كاميرا المخرج بنقل اللحظات الحميمية والمحطات الأخيرة لفقيد الأدب و الرواية الجزائرية في يومين من جملة عشرة أيام قضاها وطار في بيت محمد الزاوي في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس أثناء فترة علاجه .
في ساعة وعشرين دقيقة رصد مخرج العمل الجانب الخفي لهذه الشخصية المثيرة للجدل مستحضرا في ذلك أحاديث صاحب رواية الزلزال المرتبط وجدانيا بالأرض والوطن.. الأحاديث المليئة بروح الدعابة والعفوية والممزوجة بمقاطع غنائية كان يعشقها وطار وبين الفينة والأخرى كان يغنيها ويؤديها . 
 
‘ عندما توقد شمعة فأنت تأكل من الشمع ”
 
عبارة ترجمت أفكار ورؤى وطار وكلمات اتخذها المخرج مدخلا لعمله الذي أشاد به الكثير لإماطته اللثام على جانب لا يعرفه سوى المقربين منه، لهذا جاء الاشتغال والتركيز أكثر على عدد من الشهادات لأقلام أدبية وأصوات شعرية وإعلامية جزائرية وعربية وأجنبية كالكاتب المصري جمال الغيطاني الذي كانت تربطه صداقة قوية بصاحب رواية اللاز و كذا عدد من شعراء و أدباء الجزائر كأحمد منور، عزالدين ميهوبي، جمال فوغالي، واسيني لعرج، عمر أزراج وآخرين إلى جانب أفراد من عائلته، شهادات نوهت بمناقب و حنكة الراحل و أشادت بالقامة الأدبية والرصيد الفكري للرجل الذي لم يظهر يوما آلامه الداخلية بل ظل قلمه يخفي تلك الأوجاع ويقاوم أعراض المرض لاعتقاده الكبير ”بأن الزمن ذاتي وزمنه ملك له” فمنهم من وصف وطار بالصريح والمباشر في كلامه ومنهم من استعرض بعض مواقفه الجادة والمرحة في نفس الوقت وآخر استحضر إسهاماته اللامتناهية في الفكر والأدب والإعلام وتسييره الناجح للعديد من المؤسسات الإعلامية أو الثقافية التي عين على رأسها ليكون الإجماع في الأخير على أن الطاهر وطار كان إنسانا سخيا ورجل مبادئ وظل إلى آخر أيامه موصولا بوطنه وبكل المراحل التاريخية التي عاشتها الجزائر فبعدما عرف الاستعمار والاستقلال تعايش مع كل المراحل الجوهرية التي مرت بها البلاد.

ولكي تكتمل الصورة في ذهن المشاهد اتجه مخرج الشريط الوثائقي لتصوير بعض المشاهد المصاحبة والمرافقة لشهادات العائلة إلى مسقط رأس عمي الطاهر كما يحلو للكثير مناداته أين تحدث الفقيد وابن الريف الأصيل عن علاقته بذاك المكان والمليء بالذكريات وامتزجت شهادة أهله وأقاربه بذكريات الأخ، العم، المجاهد و الأديب صاحب المواقف الثابتة أين تعرف المشاهد على الراحل عن قرب ومن منظور عائلته الأولى والحقيقية .   

 و عقب عرض وثائقي ”الطاهر وطار آخر الكلام” أكد المخرج محمد الزاوي ”أن انجاز هذا العمل لم يكن مخططا له بل كان صدفة وبدأ ذلك بمجرد تشغيلي لآلة التصوير الخاصة بي والتي أحملها معي إلى كل وجهة أكون موليها تحسبا لمثل هذه الصدف والمناسبات – يضيف الزاوي- وكان هذا خلال العشر أيام التي قضاها في بيتي بفرنسا أثناء خضوعه للعلاج، في ظروف حساسة ووضعية حرجة ومرحلة متقدمة من المرض، حينها تركت عمي الطاهر يعبر عن رأيه و يحكي عن نفسه بكل عفوية و تلقائية و يسرد ماضيه ” .
 
 و كما بدا للمشاهد فان العمل شكل سيرة ذاتية خالصة فيها الكثير من الحميمية، التلقائية والعفوية وهنا كانت قوة الشريط الغني بالشهادات أو التدخلات الحصرية لعمي الطاهر، والتي غطت إلى حد ما ضعف الجانب التقني وفي هذا الصدد قال المخرج  ”هذا العمل وجدت فيه صعوبة كبيرة و قد لاحظ الكثير أنه لم يكن احترافيا مائة بالمائة لأني أنجزته لنفسي واحتفظت به كوثيقة و ذكرى من عمي الطاهر فضلا على ذلك أنا من قمت بالتصوير والإخراج والتركيب، مع العلم أني صحفي وتنقصني الخبرة في المجالات المذكورة إلا أني استنجدت ببعض الأصدقاء كل في مجاله وبالتالي افتقار الفيلم – الذي أنجزته من مالي الخاص – إلى رؤية فنية و تقنية عالية كان لهذه الأسباب ” .
 
وخلال النقاش الذي فتح بعد عرض الفيلم تحدث المخرج عن العلاقة التي كانت تربطه بالطاهر وطار الأديب والتي تعود إلى أواخر السبعينيات، أوائل الثمانينات عندما ترجم وحول روايته – الزلزال – إلى عمل مسرحي كان قد قدمه في تلك الفترة بينما علاقته بعمي الطاهر الإنسان بدأت قبل انجاز هذا العمل وفي ذات السياق يضيف قائلا ”أول مرة أنجزت فيها تقريرا أو موضوعا عن الطاهر وطار كان لصالح فضائية عربية كنت أشتغل معها كمراسل من باريس، هذا التقرير مكنني من التعرف أكثر على شخصية هذا الكاتب المبدع الذي كنت أعرفها من بعيد فقط إلى أن اكتشفت الجانب الإنساني له ومن ثم أصبحت العلاقة أكثر قربا ومتانة بيني وبين عمي الطاهر الذي لا يمر يوم إلا وأكتشف فيه أجمل الخصال واستخلصت من حديثه أنبل الدروس والعبر في الوطنية والإنسانية فمن المواقف التي يمكن ذكرها تواصله الدائم واليومي مع الجزائر فرغم المرض إلا أنه ظل منشغل البال بما يحدث وكان يجري اتصالات يومية للاطلاع على جديد الجمعية الثقافية الجاحظية التي أسسها سنة 1989 ويعتبرها إرثا لكل منتمي إليها ولكل أديب . 
 
” أنا عربي حضاريا و أمازيغي عرقيا ”
 
هي إحدى المبادئ التي يؤمن بها والنقاط التي أثارها وطار خلال الفيلم فقد ظهر في كثير من الأحيان مدافعا عن لغة القرآن الكريم اللغة التي يكتب بها وفخورا بانتمائه العربي الأمازيغي، و بين هذا وذاك راح يقول ” أنا التراث ” كلمة قالها مرة ورسخها في الأذهان آلاف المرات الشهداء يعودون هذا الأسبوع ” كان مناضلا وفيا لشعبه ولتراثه وتجلى هذا في صورتين، الأغاني التي كان يرددها والنمط المعيشي الذي كان يعيشه في قريته – مدوروش – الواقعة بولاية سوق أهراس.

كما توقف الوثائقي عند أزمة مصر والجزائر الكروية وتفاعله مع الأحداث، حيث أظهر المخرج تعاطي صاحب ”اللاز” مع الأزمة من خلال شهادة الكاتب المصري جمال الغيطاني الذي أورد قائلا ”اتصل بي الطاهر وطار وكان شديد الانفعال و استغرب الهجوم الذي تشنه بعض القنوات المصرية على الجزائر وتطاولها على الشهداء” فراح الغيطاني يطمئنه بأنه من سابع المستحيلات أن تزول علاقة البلدين الشقيقين لأجل مباراة كرة قدم وأن ما حصل ليس سوى غمامة سوداء من صنع بعض الجهلة ” . 
 
”يوم مشيت في جنازتي و مشى الناس”
 

المخرج محمد الزاوي

 ختام وثائقي ”الطاهر وطار آخر الكلام” كان بمشهد مؤثر فمن لم ير عمي الطاهر وهو يصارع الموت بصمت وقوة تحقق له أكثر من ذلك فقد حمل هذا العمل أمانيه الأخيرة وهي أن تأخذ الموت روحه وهو نائم مستلقي في سريره وقابلت الأمنية الحلم الذي أعلن نهاية العمل، حلم في جوهره رسالة للعالم أن تحيى البشرية بلا ظلم … فهل للأماني والأحلام أن تتحقق لمن تمنى يوما أن يموت كالشهداء وكان لبارئه أن استجاب لدعوته برحيله في شهر رمضان…

و بلوعة الشوق وفرحة اللقاء بعد الفراق عادت القامة الأدبية إلى معانقة أرض الوطن، فرحة لم تخفها أعين و ملامح الرجل الذي نقل هموم المواطن البسيط وشرف الثقافة الجزائرية وحافظ على بريقها فسجله شاهد على ذلك ولا يزال يحتفظ بجائزة مؤسسة سلطان بن على العويس الثقافية وجائزة الشارقة للثقافة العربية التي تمنحها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو.
 
ومن لم يجرؤ يوما على مواجهة الموت فإن الطاهر وطار يرى في الموت تجربة وحالة فنية فهو الذي سبق وأن تجول في العشرية السوداء بأخطر المناطق بحثا عما يسمى بالإرهاب لتجاوز هذا الجدار ومواجهة الموت، ففي الوقت الذي كان يتحدث الأطباء عن موت أكيد كان عمي الطاهر وهو على فراش الموت يحرر ويؤلف آخر عناقيده التي ترك بها نبراسه مع ” قصيدة في التذلل ” وبها مسك الختام … 
 
” عندما أكتب أنسى نفسي … أكون في حالة لا وعي لأني ألقي بنفسي في عالم الرواية التي أنا بصدد تحريرها… ”
 
ولكي تكتمل صورة فقيد الأدب والإنسانية سيخصص المخرج محمد الزاوي الجزء ثاني للزخم الأدبي الكبير للطاهر وطار أين سيسلط الضوء على إسهامات الرجل الفكرية والرصيد الأدبي الهائل الذي خلفه  صاحب الزلزال و محرك شخصيات اللاز وسيكون مدعم أيضا بشهادات حية .

و في سياق آخر كشف المخرج محمد الزاوي عن مشروع سينمائي جديد وهو فيلم وثائقي يشتغل عليه ويوشك على الانتهاء منه حول عودة سجين جزائري إلى زنزانته بفرنسا ويتعلق الأمر بمصطفى بودية رئيس جمعية المحكوم عليهم بالإعدام حاليا وحسب ما أكده للجزيرة الوثائقية فان مرحلة التصوير قد انتهت والعمل هذا أيضا كان صدفة والفكرة بدأت تتضح عندما التقيت بمصطفى بودية بفرنسا أثناء حضوره للمشاركة في إحدى النشاطات حول 17 أكتوبر 1961 بمدينة ليون الفرنسية فانا لا أريد أن العمل على السطحيات بل أريد أن ألامس الأعماق لان التاريخ يتطلب منا التعمق في جملة الأحداث .


إعلان