“المراسل الحربي”.. شذرات من قلق الماضي على هامش الحرب في كرواتيا
يثير الفيلم الوثائقي الكرواتي البديع “المراسل الحربي” (60 دقيقة) كثيرا من التساؤلات، ويعيد إلى الأذهان بوضوح، الكثير من الأفكار النظرية حول طبيعة الفيلم الوثائقي وشكله وحدوده ومدارسه وتطور نظرياته.
الفيلم الذي أخرجه “سيلفستر كولباس” يثبت لنا أولا أن الفيلم الوثائقي لا يكون دائما عملا موضوعيا، يعبر عن رؤية محايدة أو يتظاهر بالحياد، ويأتي التعليق الصوتي فيه كأنه صوت القدر، أي لا علاقة مباشرة له بالمادة الموضوعية.
وهو يؤكد لنا أيضا أنه ليس من الضروري أن يكون الوثائقي مرادفا للتوازن المفتعل الذي يأخذ في الاعتبار كل الأطراف، وهو أسلوب يطغى على التحقيق التليفزيوني الذي نشاهده كثيرا في الوقت الحالي، وهذه النقطة تحديدا هي التي تقودنا إلى رصد البعد الثالث المهم في هذا الفيلم، وهو أنه يعد نموذجا بديعا للفيلم الوثائقي الحديث الذي يتخلص تماما من طابع التقرير التليفزيوني، رغم أن مادته الرئيسية أو موضوعه وخلفية مخرجه، هي خلفية ذات علاقة بالمادة الإخبارية ومتابعة الأحداث الجارية وتصوير الأخبار.
ساحة الحرب.. بقعة فوضوية من تناقضات الذاكرة
يروي “كولباس” في فيلمه هذا قصته الشخصية مع الحرب في يوغسلافيا السابقة، وتحديدا النزاع المسلح بين صربيا وكرواتيا، وهو يعود إلى المادة البصرية التي صورها بنفسه هناك عام 1991، حين وجد نفسه محاصرا في بلدة تعيش فيها جماعات من الصرب والكروات، وكان يتعين عليه أن يدفع الثمن.
إنه يتوقف أمام عمل المراسل الحربي من خلال التجارب التي يعايشها من حوله، مع زملائه المصورين والمراسلين الذين يرغبون في النفاذ من الحصار، لكنهم يضطرون للبقاء بعد أن انقطعت بهم السبل، يستغلون الفرصة لنقل مشاعرهم وتسجيلها أمام الكاميرا.
كيف كان تأثير الحرب على البشر في تلك البقعة التي تتداخل فيها القوميات إلى حد مذهل وأحيانا مزعج وملتبس بالنسبة للكثيرين؟
ما الذي يتعين على الناس العاديين أن يدفعوه من ثمن باهظ لهذا النزاع المسلح؟
ولعل البطل الرئيسي في هذا الفيلم هو الكاميرا، فالرجل المخرج الراوي هو أساسا مراسل حربي تليفزيوني، وقد ترك أسرته وذهب إلى تلك المنطقة لنقل أحداث النزاع.
الراوية المخرج المصور الأب البطل اللابطل الضحية، هو الذي نسمع صوته على مدار الفيلم، يأتينا من خارج الصورة، ولكن على عكس “صوت القدر” الموضوعي، ينطلق من الذاتي إلى العمومي، ومن الخاص إلى العام، ثم يعود ويرتد إلى الإنساني والذاتي طيلة الوقت.
“كولباس”.. صانع الفيلم وبطله الشغوف بالأبيض والأسود
يبدأ الفيلم من البعد الذاتي للقصة، قصة “كولباس” نفسه، أولا من حيث علاقته بالصورة التي هي أساس الفيلم، ومن دونها ليس لدينا فيلم، بل ربما لا وجود لـ”كولباس” نفسه.
في البداية نرى لقطات للقصف على زغرب، دخان كثيف يرتفع من أعلى إحدى البنايات ويطير آلاف الحمام هاربا من جحيم القصف، نرى لقطة للحمام الطائر، ثم تتجمد الصورة ويظهر عنوان الفيلم.
الجزء الأول من الفيلم يأتي في معظمه بالأبيض والأسود، وهو أصل التصوير الفوتوغرافي، وعشق بطلنا وهوايته ومهنته لسنوات عدة، ليس رغبة في اكتساب العيش بل حبا في معرفة الكثير عن الناس، عن العالم، عن ما يجري حوله.

يطرح “كولباس” من البداية تلك التساؤلات الوجودية المعذبة مثل: ما هي الصورة؟ هل هي الحقيقة؟ ويجيب: الصورة ليست الحقيقة، لا أعرف أهمية ما أقوم بالتقاطه من صور، سأمنح جائزة نوبل لمن يمكنه أن يقول لي هل الصور أهم من اللحظات التي أقوم بتصويرها في الحياة الحقيقية؟
على خلفية ذات شاشة بيضاء تظهر صورة شاب يافع مع كاميرا فوتوغرافية، إنه “كولباس” نفسه في شبابه، ثم تظهر صور من شرق كرواتيا في سبعينيات القرن الماضي، فنرى الشوارع والسيارات والبشر، ونسمع تعليق المخرج يقول لنا: إنني أعرف كل شيء من خلال الصور.
صور الماضي.. حين كان البشر يصنعون الحياة
نرى في الفيلم لقطات من “كولباس” مع أصدقائه في الحقول، وتارة يلعبون الكرة، وتارة نراه فوق الدراجة أو يصطاد السمك، ولقطات أخرى لامرأة تنشر الملابس في العراء، ونرى رجلا فوق حصان، وتبدو الحياة تشع بالبراءة والرومانسية والجمال. وأما الموسيقى فكانت ناعمة رقيقة مرحة، كأننا أمام صورة تعكس الحنين الكبير إلى الماضي، دائما الماضي يكون أجمل عند كل من يشعرون بحقيقة المأساة الإنسانية، المأزق الإنساني الذي نعيشه ويتضح لنا يوما بعد يوم، مع تقدمنا في العمر.
هذا الفيلم عن الحرب، وعن البشر عندما كانوا يصنعون الحياة، وكيف أصبحوا يصنعون الموت. لكنه ليس فيلما تحليليا سياسيا عن أسباب الحرب، وما الذي حدث تحديدا في تلك المنطقة من العالم، يوغسلافيا السابقة وكرواتيا وصربيا والحرب الضروس التي دارت بينهما في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، بل هو أساسا، فيلم عن المأزق الإنساني، وعن طبيعة الصورة وقدرتها الهائلة على الكشف وعلى الكذب أيضا، على استدعاء اللحظات النادرة في التاريخ، وعلى توثيق لحظات الحسم، وكيف تترك تأثيرها التراجيدي الهائل على مصائر البشر.

ويمكن أيضا اعتباره فيلما عن الطفل وهو يكبر ويصبح شابا ثم رجلا مسؤولا ورب أسرة يخشى على أسرته، يجبن عن الاختيار لأنه يتعين عليه القبول بما لم يكن يقبل به وهو صغير. إنه فيلم عن القدر الإنساني.
شريط الحياة.. عمر موثق بالتصوير الفوتوغرافي
علاقة “كولباس” بالتصوير هي المحور الأساسي الأول في الفيلم. وكذلك علاقته بأسرته وأصوله، فالفيلم رحلة في كابوس الحياة بما فيها الحرب والحب والأسرة والواجب والعمل والضياع والعشق والخوف، لكنها أيضا رحلة من أجل معرفة الذات، حقيقة النفس.
من هو “كولباس”؟ يقول إنه يعتبر نفسه روثينيا (إقليم في الشرق الأوروبي) رغم أن أمه كرواتية، وكان والده كان يصر على أن الروثينيين ليسوا من الروس، لقد جاءوا إلى هذه المنطقة من جبال الكربات، ولديهم لغتهم الخاصة الروثينية، وهم ينتمون للكنيسة الكاثوليكية اليونانية.
حياة “كولباس” هي شريط من الصور، صوره مع أسرته، مع حبيبته التي تعرف عليها وقدمها لأسرته قبل أن يتزوجها، صور الزواج، زوجته تحمل طفلهما الأول ثم تلده. كل شيء مسجل بالصور، عشرات الصور واللقطات، كيف كان يتعين عليه بعد ذلك الالتحاق بوظيفة مصور في التليفزيون الكرواتي في زغرب وهجر التصوير الفوتوغرافي الذي هو عشقه الحقيقي، كان يصور الأحداث الجارية والأخبار ويبحث عن الجمالي، بينما يقول له زملاؤه إن الجمالي ليس مهما بقدر أهمية المضمون، محتوى اللقطة، وهذا هو درس العمل في التصوير للأخبار.
طبول الحرب.. أحداث تقلب المشهد في كرواتيا
بعد احتفالات رأس العام 1991 لم يعد الحال إلى ما كان عليه أبدا بالنسبة لشعوب يوغسلافيا، بدأت الاستعدادات للحرب، لكن “كولباس” رفض أن يصدق هذا، ووجد نفسه مرة أخرى يقطع ربوع كرواتيا، ولكن هذه المرة بحثا عن الأخبار السيئة كما يقول.
وندخل من هنا إلى الجزء الثاني من الفيلم الذي يمكن أن نطلق عليه “الخوف”، ذلك الخوف الغريزي من المجهول القادم الذي يمكن أن يطيح بكل ما صنعه المرء في حياته.
“كولباس” خائف، يذهب إلى مدينة باكراش مع مراسل سويسري، فريق التصوير معه من الكروات، بينما السائق صربي، الجميع لا يثقون في بعضهم، فالخوف يشملهم أجمعين، فهم خائفون مرتعدون يرون أمام الكاميرا كيف يستقبلون الأحداث وما الذي عايشوه، بدءا من الطرد والقتل الجماعي والدفن في حفر كبيرة، إلى حرق المنازل والتهجير القسري، ثم بدء سياسة التطهير العرقي، فاختلاط الأجناس في البلدات والقرى يجعل الحرب شديدة الخصوصية، شديدة التعقيد، باهظة الوقع على السكان الأبرياء. لا توجد هنا إدانة لطرف دون الطرف الآخر، بل للحرب نفسها، لغباء الإنسان.
يصور “كولباس” مظاهرات حاشدة تهتف أمام المحكمة العسكرية في زغرب، تنادي بالحرب، ولا يكاد يفلت من اعتداء الجموع إلا بمعجزة، لقد ظنوه مصورا من بلغراد، أي من صربيا. في إحساس وجودي بالعبث يقول: أحيانا لا أعرف ما إذا كنت أخاف أكثر من الجنود الصرب أم من حشود الكروات الغاضبين.
في فنكوفيتشي التي كان يقيم فيها مع أسرته الصغيرة وهي بلدته الأصلية التي نشأ فيها صغيرا، كانت الجموع تهتف للتعصب العرقي، لكرواتيا التي يجب أن تقهر عدوتها صربيا. ترتد الذاكرة إلى المكان نفسه، إلى أعلام كرواتيا التي يحملها المتظاهرون، ولكن للاحتفال وليس للاحتجاج كما يقول بطلنا.
نعود إلى اللقطات والصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، لذلك الماضي المسالم الذي كان، موسيقى الأكورديون والاحتفالات الجماعية في الشوارع، يضطر لأن يذهب بابنه الصغير إلى منزل جدته في بلدة أخرى، رسومات الابن البديعة التي تعكس إحساسه بوالديه، بالجو العام المحيط، أعلام كرواتيا الملونة.
لقاء جارة الماضي.. خوف يكسر روابط الذاكرة
يعود “كولباس” وحده في مهمة إلى خط النار في فنكوفيتشي، وفي مشهد هائل لا يمكن تصديقه يلمح امرأة مع ولدها تختبئ من القصف وراء سيارة، يتعرف فيها على جاراتهم من الزمن الماضي، لقد كان والده أحد شاهدي زواجها، ونرتد إلى صورة فوتوغرافية لحفل الزواج، لكنها الآن خائفة، لا يمكنها أن تتعرف عليه، ترفض الإجابة عن أسئلته حول ما يجري في بلدتها.
يطرح التساؤلات عن طبيعة عمل المراسل أو المصور الحربي: هل نحن إذا لم نصور الدماء والجثث لا نحصل على مرتباتنا وعلاوتنا؟ هل هذا هو المطلوب؟ أي مهنة هذه؟
البلدة التي ينتمي إليها وفيها ولدت ذكرياته وعرف الحب الأول، هي موقع القتال الآن، لقد انقسمت إلى قسمين، منازل الصرب أصبحت خالية، لجأ السكان إلى القسم الثاني حيث التحصينات. المراسلة الصحفية تقف أمام الكاميرا تصف كيف أصبح الوضع في البلدة. صحفيات المساء أكثر إقبالا على الخطر من الرجال، ورغم ذلك فبعضهن لا يستطعن التماسك أمام الكاميرا، فالعاطفة ومشاعر الصدمة تغلبهن.
صور الضحايا.. مراقب الحرب يعتاد على فظاعة المشهد
تمتلئ المدينة بالقناصة والموت والقتل والصلوات في الكنائس على الموتى والمدافن وشواهد القبور. كيف خرجت زميلة صحفية ليلا في البلدة تتجول، تاركة مسدسها في غرفتها بالفندق الذي كانت تقيم فيه إلى جوار “كولباس”؟ وما الذي وقع لها من مأساة؟ لقد أصيبت بجروح خطيرة وفقدت ابنتها.
نرى كيف يصور “كولباس” أول جثة لشاب قتل في هجوم صربي، في أول لقطة قريبة للجثة، بعدها يقول إنه اعتاد على ذلك ولم يعد يفزع من تصوير مشاهد الحرب المفزعة، طالما أنه وراء الكاميرا، هل تجعله الكاميرا مجرد مراقب؟
الارتداد دائم في الفيلم بين لقطات الماضي من هذه البلدة ولقطات الحاضر، من الأبيض والأسود، واللقطات الرومانسية الناعمة للبشر في حياتهم اليومية، واللقطات الملونة الفظة التي تعكس الخوف والترقب والقلق والاعتداء على البصر أيضا بما تعرضه الكاميرا من مناظر للجثث المتعفنة.
يتعرض الفندق الذي يقيم فيه “كولباس” للقصف، فقد سقطت 700 قذيفة أثناء الليل، وكان يتمنى هو أن يستمر القصف حتى النهاية، لكنه يتوقف، وقد انفجرت أنابيب المياه فأغرقت المكان، يقول إنه شعر بأن أهم شيء على الإطلاق في تلك اللحظة أن يتضامن الجميع فيما بينهم.

يشاهد “كولباس” من نافذة حجرته في الفندق تعرض المنزل الذي تقيم فيه أمه للقصف، يتصاعد منه الدخان، لكنه لا يستطيع الذهاب إلى هناك بسبب الخطر الكامن في كل مكان. سقف منزل الأسرة دمر تماما، لكنها ترفض النزوح من البلدة في البداية، ثم ترضخ بعد لأي وتوافق على الذهاب إلى زغرب.
أسئلة الحرب الذاتية المتناقضة.. بلاغة الوثائقي
من هنا يبدأ القسم الثالث من الفيلم، لقد أصبحت الحرب حربه الخاصة، هنا تصبح الحرب شيئا عبثيا يسيطر على المرء، فلا يمكنه أن يفصل نفسه عنه، ولا أن يحتمي منها وراء الكاميرا. إنه يتطلع أمامه فيجد مكتبة البلدة وقد دمرت تماما واحترق ما فيها من كتب، فيرتد إلى شبابه عندما كان يتردد على تلك المكتبة ينهل منها، في لقطات فريدة لم يكن يتخيل أنها ستصبح مادة مرتبطة بتلك الأحداث اللاحقة بعد سنوات طويلة.
تركت الحرب تأثيرها على “كولباس” وعلى أسرته، فلم تعد علاقته بزوجته كما كانت قط، ولا مع ابنه، فالصور المرعبة التي شاهدها وصورها ظلت في داخله لأكثر من عشرين عاما، وهو عندما يصنع اليوم هذا الفيلم لا يصنعه لكي يقدم لنا شيئا لا نعرفه، بل لكي يفهم هو ما يعرفه ولم يستطع أبدا أن يفهمه.
هذه العلاقة الجدلية المستمرة المقلقة بين الكاميرا وصاحبها، بين الصورة والمحتوى، والماضي والحاضر، والمادة المصورة، والإنسان وراء الكاميرا وأمامها، عبثية الاختيار الإنساني، والقدر الذي قد يسوقنا إلى أن نخبر ما لا نحب، ونحب ما لا نريد.
هذه هي مادة هذا الفيلم الكبير “المراسل الحربي”، وفي تلك الثنائيات والتناقضات والتساؤلات المقلقة تكمن عظمته، خصوصا أنه مصنوع ببراعة وشفافية ورونق، لا أقصد أنه يجمل لنا القتل، بل لقدرته على التوقف أمام تلك الآلية الرهيبة التي ابتكرها الإنسان، لكي يطرح التساؤلات المعذبة الفلسفية حول مغزى الوجود نفسه، وما يمكن أن ينتهي إليه الإنسان في لحظة ما برصاصة طائشة أو بلغم ينفجر فجأة.
فيلم “المراسل الحربي” هو درس في السينما الوثائقية الحديثة، درس بليغ يتلخص في التالي، القدرة على خلق التدفق من خلال التراكم الصوري، مع أسلوب يتمتع بقدرة هائلة على التحكم في ذلك التدفق، في إيقاع تعاقب الصور واللقطات، في المزج في اللحظة المناسبة، بين الصور الفوتوغرافية واللقطات الحية، بين الماضي والحاضر، الذاتي والموضوعي، وبين الموسيقى والصورة، ويعرف أيضا متى يتوقف عن التعليق ويترك الصور تتنفس. وتلك هي بلاغة الوثائقي.