فيلم ” مرسيدس” والفكرة المسبقة
عدنان مدانات
من بين الاحتمالات المتعددة التي يمكن أن ينشأ عليها مشروع إنتاج فيلم تسجيلي هناك احتمالات بأن يتأسس المشروع بناء على فكرة مسبقة، فكرة قد تكون ذات منطلق شعري جمالي، أو قد تنطلق من مفهوم فكري أو فلسفي، لكن ، في كل الحالات فإن طبيعة النوع التسجيلي، المرتبطة أساسا بالواقع، وبعكسه المباشر، تشترط على معالجة الفكرة أن تقيم الصلة المنطقية العميقة مع موضوع واقعي و مادة واقعية، فالفيلم التسجيلي، ومهما كان أساس مشروعه الذي بني عليه، يظل ينحو نحو التجسيد لا التجريد.
يعرف تاريخ السينما التسجيلية العالمي العديد من مشاريع أفلام تسجيلية نشأت على أساس إيجاد معادل موضوعي لتجسيد فكرة مسبقة. من هذه الأفلام، على سبيل المثال، فيلم بعنوان ” آنا .. من السادسة حتى الثامنة عشر” وهو فيلم روسي أخرجه في العام 1993 المخرج نيكيتا ميخالكوف كونتشالوفسكي. انطلقت فكرة الفيلم من إجراء مقابلة من قبل المخرج مع ابنته الطفلة، وهي كانت في السادسة من عمرها، يطرح عليها فيها أربعة أو خمسة أسئلة بسيطة مثل ماذا تحبين؟ من ماذا تخافين؟ بماذا ترغبين؟، على أن يعيد طرح نفس الأسئلة عليها في العام التالي والذي يليه ثم يليه، و يستمر في ذلك إلى أن تبلغ الطفلة الثامنة عشر من عمرها. هذا كان يعني أن تستمر عملية تصوير الفيلم مدة ثلاثة عشر عاما، وهو ما حصل بالفعل.
كانت الفكرة في الأصل فكرة شعرية مجردة غامضة الهدف وكانت بحاجة إلى حل فني درامي يساعد على تجسيدها موضوعيا، ثم تبلور الحل لاحقا في ذهن المخرج من خلال ربط الإجابات مع التغير الذي حصل في الوطن بدءا من العقد الأخير للنظام السوفييتي وصولا إلى انهياره بعد تحول النظام نحو” البيروسترويكا”( اي إعادة البناء)، الأمر الذي استدعى الاعتماد على المادة الأرشيفية والتعليق المباشر.

فكرة الفيلم بحد ذاتها كانت فكرة مبتكرة ولكنها فكرة صعبة ليست سهلة التنفيذ. بينت النتيجة النهائية للفيلم المنجز، وهو جاء في حوالي السبعين دقيقة، أن المخرج لم ينجح في تجسيدها على نحو جيد، فقد بدا الربط بين إجابات الطفلة والمادة الأرشيفية مضافا إليها تعليق سردي ذاتي بصوت المخرج ربطا تعسفيا غير مقنع وغير مبرر، مما أفقد الفكرة شعريتها.
ثمة تجربة في السينما التسجيلية العربية، مشابهة في اعتمادها على فكرة مسبقة من حيث المنطلق، وهي الفيلم اللبناني الحديث” مرسيدس” للمخرج هادي زكاك. قامت فكرة الفيلم عل جعل سيارة” المرسيدس” وهي السيارة الأكثر شعبية في لبنان، “بطلا” للفيلم، ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعى المخرج لأنسنة السيارة من خلال وصفها بعائلة” المرسيدس” وتتبع تاريخها منذ وصولها إلى لبنان في الخمسينيات من القرن الماضي وصولا إلى الزمن الحالي، ومن أجل تحقيق فكرته هذه لجأ المخرج، كما فعل كونتشالوفسكي في فيلمه المشار إليه أعلاه، إلى ربط تاريخ المرسيدس بالتوازي مع تاريخ الوطن مستخدما المادة الأرشيفية، ومنها مادة أرشيفية متنوعة تظهر فيها سيارات المرسيدس في حالات مختلفة، وبهدف الإبقاء على سيارة المرسيدس في الفيلم بطلا مؤنسنا، استعان المخرج بالتعلق المكتوب المتناثر عبر مشاهد الفيلم، والذي بدايته تعلن أن القصة بدأت في الخمسينيات التي ترافق فيها وصول المرسيدس إلى لبنان مع نهضة عمرانية، ويتحدث التعليق التالي عن ترك أفراد” العائلة” ألمانيا واستقرارهم في لبنان( ومع أن التعليق لم يتضمن تحديد من هي العائلة إلا انه يفهم ضمنا أنها عائلة المرسيدس)، و يتابع الفيلم ما حصل مع أفراد هذه العائلة عبر التعليق المكتوب، حيث يشير إلى أن عددا من أفراد” العائلة” اشتغلوا ” سرفيس”( سيارة أجرة عمومية)، فيما أصبح عدد من أفراد” العائلة” من وجهاء البلد، ويشير تعليق آخر إلى أن أفراد العائلة تميزوا بصحتهم القوية و بأناقتهم وأن هذه السيارة التي يطلق عليها تحببا وصف” المدعبلة” وحّدت جميع الطبقات اللبنانية.
تستمر عملية أنسنة سيارة المرسيدس عبر الفيلم بالتوازي مع تتالي التعليقات المكتوبة حولها ومع مشاهد أرشيفية من الحقب المنصرمة لسيارة المرسيدس ولأحداث تاريخية، إذ يقسم المخرج فيلمه إلى فصول متتالية يحدد عنوانها المكتوب على الشاشة كل فصل منها بعقده الزمني:” الستينيات”، السبعينيات… وما يتلوها.
هذا هو الأسلوب الطاغي على الفيلم والذي حافظ عليه المخرج التزاما منه بفكرته الأصلية، وهذا ما يمكن اعتباره إنجازا من قبل المخرج، لكن مشكلة الفيلم حسب رأيي الشخصي( فالفيلم أثار إعجاب العديد من المشاهدين كما حصل على أكثر من جائزة في المهرجانات السينمائية)، ليست في تجانسه الأسلوبي، بل فيما بدا لي ربطا تعسفيا، بواسطة التعليق الخاص بالمرسيدس، بين المرسيدس المؤنسن وبين الوطن، ومن أمثلة ذلك التعليق المشار إليه أعلاه حول أن سيارة المرسيدس وحدت جميع الطبقات اللبنانية، إذ لا يوجد مقابل بصري أو حتى تاريخي، يبرر مثل هذا القول، ومن أمثلة ذلك أيضا تعليق يقول أن بيروت أصبحت مركزا مهما يستمتع به الشباب بلعبة الحرب وأن أفراد العائلة انضموا إلى اللعبة، ففي حين يبرر الفيلم هذا التعليق بعرض لقطات لشاحنات صغيرة من نوع المرسيدس تحمل أسلحة ومقاتلين، فهو لا يقدم تبريرا للتعليق التالي حول أن” المدعبلة” لم تعد تحتمل مخاطر التاكسي فابتدعت” لوك” جديد.