“انتقاليات” الدورة ال 24 من مهرجان الفيلم الاوروبي
رانية حداد
ثمة لحظات وأحداث مهمة في حياة أفراد أو شعوب، تنبع أهميتها من التغيير التي تحدثه في حياتهم، فيصبح هناك ما قبل هذا الحدث أو ذاك وما بعده، اذن هي نقاط انعطاف في شكل وفهم الحياة، أو بتعبير اخر “انتقاليات”، وهو العنوان الذي حملته الدورة ال 24 من مهرجان الفيلم الاوروبي في عمان، بالتعاون مع الهيئة الملكية للأفلام.
التكيُف ؟
هل التغيير بالضرورة يحمل في طياته ما هو أفضل؟ وما هي الحلول المطروحة؟
انهيار جدار برلين، وانهيار المنظومة الاشتراكية معه، وبدء مرحلة النظام العالمي الجديد الذي تسيدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية العالم، وبدأت بفرض نظامها الرأسمالي، هذا الحدث شكل نقطة انعطاف في حياة الدول الاشتراكية بشكل خاص، وعلى مسافة عقدين من هذا الحدث يقدم المخرج الهنغاري اندري هيولز أحداث فيلمه “رقصت حتى الموت” ليعرض من خلاله مقترحه الخاص لحل الصراع بين النظامين. حيث يلتقي الشقيقان غيولا واشتفان بعد عقدين من غياب (اشتفان) الذي انشق عن النظام الاشتراكي في بلاده مفضلا عليه النظام الراسمالي، فهجر حينها هنغاريا الى كندا، كما هجر معه الرقص الذي سبق وان احترفه مع اخيه، بكل ما يحمل هذا الرقص من ملامح هوية بلاده الثقافية، وفضل عليه احتراف التجارة والتسويق، كما فضل قطع الاتصال مع أهله، واذ يعود الان بعد هذا الغياب ليقدم صيغة للتصالح مع أخيه تقوم على الشراكة والتكيُف بينهما كشقيقين وأيضا بين النظامين (الرأسمالي والاشتراكي) على المستوى الاخر من الدلالة، فيعرض (اشتفان) على أخيه رأس المال والتسويق، مقابل أن يقدم شقيقه عرضا راقصا لفرقته مستندا على الفلكلور الهنغاري، ورغم تناقض النظامين وغياب النقاط الجامعة واستحالة التكيف بينهما، الا أن هيولز عبر فيلمه يصر على امكانيته برسالة التكيف هذه اختار القائمون على المهرجان أن يفتتحوا دورة الانتقاليات، كما اختاروا ان يختتموها بعرض الفيلم الاردني “مدن الترانزيت” اخراج محمد الحشكي – الذي سبق وان تحدثناعنه- والذي يقدم شخصية ليلى العائدة الى عمان بعد غياب سنوات طويلة لتجد ان ملامح البلد قد تغيرت، وانها غير قادرة على التكيف معها.

الحرب، الموت والحب، والعودة للجذور
أيام تتنوع خلالها الأفلام المعروضة -14 فيلما- بتنوع جنسية بلاد الاتحاد الاوروبي القائم على المهرجان، وان كانت ثمة “الانتقاليات” توحد تلك الأفلام، الا أنها تتفاوت بقيمتها الفكرية والفنية، وفي تقديري كان يمكن اختيار أفلام أهم وأفضل من تلك التي تم انتخابها في هذه الدورة، أغلب الأفلام المعروضة حديثة الانتاج تعود لأعوام 2011، 2010، 2009، باستثناء الفيلم الاسباني “رحلة كارول” انتاج 2002، لـ ايمانويل أوريبي، وهو من أفضل الأفلام المعروضة، اذ يقدم الفيلم رحلة فتاة على عتبة النضج في اكتشاف الحياة من حولها، في زمن استثنائي وهو الحرب الأهلية الاسبانية منتصف ثلاثينات القرن الماضي، تعود كارول مع والدتها من نيويورك -حيث يقيم والدها- الى مسقط رأس والدتها في اسبانيا، وهناك تختبر الموت، والحرب، والحب… كارول الفتاة اليافعة وروحها العصية على أن تؤسر في قالب، تمنح معنى للأشياء ونكهة خاصة لحياة سكان القرية، والحرب الذي تشكل جزءا مهما من مشروع المخرج اوريبي، وتحتل عددا كبيرا من افلامه، لكنه اثر هنا ان لا تشكل الا خلفية للأحداث، كما يحسب له انه لم يقدم الموت على نحو فج او مؤثر انما قلل الشحنة العاطفية الناتجة عنه لصالح تأمل مغامرة الاكتشاف الأولى لكارول.
للحرب ونقاط الانعطاف التي من الممكن أن تشكلها نصيب أيضا مع الفيلم التشيكي ” ليدتشي”، وهو اسم القرية التي أباد النازيون سكانها ابان الحرب العالمية الثانية، حيث يروي المخرج بيتر نيكولايف في فيلمه قصة احد الناجين من هذه المجزرة. اما في الفيلم السويدي “سيمون والسنديان” لـ ليزا اوهلين، يكتشف سيمون ان والده الحقيقي هو الماني يهودي، فيبدأ رحلة البحث عن الجذور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبحثا عن الجذور ايضا تقوم اسرة حسين يلماز التركية في الفيلم الالماني “اهلا بكم في المانيا” لـ ياسمين شامديريلي، بالعودة الى تركيا بعد حصولهم على الجنسية الالمانية بعد 45 عاما من الاقامة فيها، ويعتمد الفيلم على الفكاهة الناجمة عن اختلاف الثقافات وعدم قبول الاخر. كذلك الامر مع الفيلم البريطاني “فندق ماري جولد الاكثر سحرا على الاطلاق” لـ جون مايدن، حيث يقرر مجموعة من المتقاعدين البريطانيين الذهاب الى فندق في الهند، بعد ان وقعوا تحت تأثير الاعلانات التجارية، والتي اغوتهم بالحصول على مزايا ومتعة كبيرة هناك، لكن ما ان يذهبوا حتى تبدأ المفارقات. ولا يختلف الفيلم الفرنسي “المنبوذون” لـ اريك توليدانو واوليفيه نقاش، عن الفيلمين السابقين في قالبه الكوميدي الناجم عن المفارقات التي تحدث بين شخصيتين مختلفتين تماما في تركيبتهما وخلفيتهما الثقافية والاجتماعية، ففي الفيلم يقع اختيار رجل غني ارستقراطي على رجل اسود فقير خرج حديثا من السجن، ليساعده في تدبر شؤون حياته بعد ان اصيب بشلل رباعي، فتنشأ بينهما صداقة رغم الحواجز والاختلافات.

مواجهة الحياة
لكل اسلوبه في مواجهة صعوبات الحياة، خصوصا عندما يشعر المرء نفسه وحيدا بعد تخلي العائلة عنه، او حين تعامله بشكل سيء، خاض الشاب رومان بطل الفيلم النمساوي “تنفس” لـ كارل ماركوفيكس هذه التجربة، فقد تخلت عنه امه وهو بعد صغير فأودعته دار الايتام، وهو محتجز في احد دور اعادة التأهيل بعد اتهامه بجريمة قتل، لكن يُسمح له بالخروج في النهار للعمل مع مكتب خدمات دفن الموتى، الذي وضعه بدوره على عتبة اخرى في ادراكه للحياة، ليكتشف ان قسوة الموت التي تطل عليه كل يوم في اجساد الموتى، وقسوة الحياة داخل السجن ارحم من قسوتها خارج اسواره، رغم ذلك حاول ان يخرج من عزلته ليتواصل مع الحياة وليبحث عن والدته، ويبقى “تنفس” من الافلام المميزة التي عرضها المهرجان ايضا، اما في الفيلم الفنلندي “اميرة” لـ ارتو هالونين، تواجه بطلة الفيلم آنا معاملة اهلها السيئة بالفصام، فتتخيل نفسها اميرة تمنح الفقراء المحبة المحرومة هي منها، فيلم “اميرة” يعاني من الاطالة، وعدم استثمار التواريخ التي يظهرها المخرج على الشاشة بما يخدم تطور الشخصية او الاحداث.
سينما الموبايل
في اليوم الاخير من المهرجان عرضت مجموعة من الفيديوهات، هي بعض مما انتج في ورشة عمل نظمتها الهيئة الملكية للأفلام في اطار المهرجان، لتدريب شباب من عدة مناطق في الاردن على صنع الافلام باستخدام (الموبايل)، وقد اختارت لجنة التحكيم (الممثل المصري خالد ابو النجاة، الممثلة الاردنية صبا مبارك، المخرج الاردني اصيل منصور، والناقدة اللبنانية فيكي حبيب) ثلاثة من هذه الفيديوهات لتمنحها جائزة المهرجان، واذ نتفهم رغبة لجنة التحكيم بتحفيز الشباب في بداية طريقهم، وتشجيعهم على الابداع، لكن بالتأكيد لا نتفهم اطلاق وصف سينما او افلام على مجموعة (بروموشنات) صورت بكاميرا (الموبايل) لا ترتقي لمستوى الافلام، والاكثر سوءا ان يقدم اعضاء لجنة التحكيم هذه الفيديوهات على انها تنطوي على لغة سينمائية، في حين ان هذه اللغة هي اكثر ما كان غائبا عن هذه الفيديوهات، فهل هو استسهال في حمل المسؤولية المنوطة بهم؟ ام انها ثقافة المديح المجاني؟
ثم واصلت لجنة التحكيم الحديث عن اثر التغيرات السياسية والتكنولوجية على السينما في ندوة متصلة حملت هذا العنوان، وكيف ساهم التطور التقني في نقل الخبر والتوثيق ابان الثورات العربية، وكيف ان هذه الثورات بدورها كسرت حاجز الخوف عند المواطن ومنحته دفقا للتعبير، الامر الذي انعكس بدوره على السينمائيين، على الرغم من أن الثورة لم تتمكن من زعزعة معقل الرقابة على الابداع.