جراح الوطن و أريج المرأة في ”عطور الجزائر”
ضـاويـة خـلـيـفة – الجـزائـر
لأن المرأة كالزهرة – كما يقول شكسبير- إذا اقتلعت من مكانها تتوقف عن الحياة، أراد المخرج الجزائري المقيم بإيطاليا ”رشيد بن حاج” تكريم المرأة الجزائرية بفيلم ”عطور الجزائر” و كان له أكثر من ذلك، حيث تمكن من ملامسة مشاعر الجمهور حينما وضعه من جديد في قلب العشرية السوداء الأكثر دموية في حياة الجزائريين بعد الثورة التحريرية، و وفق في نقل تلك الضغوط النفسية التي عاشتها المرأة، و الأجمل أن المخرج كاتب السيناريو اقترح على المشاهد عدة مواضيع منها ما هو آني و منها من مر عليه الزمن لكنه لازال عالقا و مرسخا في ذاكرة كل جزائري و جزائرية، كما تمكن و في مشاهد سينمائية ذكية تشبه قراءة ما بين السطور أن يتطرق إلى الشرعية الثورية لبعض ما تبقى من الأسرة الثورية، بعض المجاهدين المتمسكين بوطنهم لأجل التاريخ و الوطن و البعض الآخر المتعصب و المتسلط على غيره، مستغل للتاريخ و السلطة.
مكالمة تحيي جراح الماضي و تعيد المغترب إلى الديار

مخرج ”الخبر الحافي” عاد هذه المرة بقصة جديدة نسجها بنفسه كتابة و إخراجا فبناها على أربع شخصيات رئيسية : كريمة، مراد، سامية و السي أحمد، شخصيات اشتركت في ألم واحد فشكلت حكاية كل واحد من الأربع محرك أحداث تتشابه في بعض التفاصيل وتجعلك أحيانا تقتفي أثر التناقض الموجود في زوايا البيت الواحد و الحكاية لكن بمرور المشاهد واحد تلو الأخر يزول ذلك الغموض و يحل الوضوح، فتأخذ حكاية الفيلم طريقها للسرد و النور بعد المكالمة التي تلقتها كريمة (الممثلة الايطالية مونيكا قواريتوري) من والدتها (شافية بودراع) و التي طلبت منها العودة للجزائر بسبب مرض والدها السي أحمد (سيد أحمد اقومي) الذي يصارع الموت في العناية المركزة منذ فترة إلا أنها ترفض العودة للوطن الذي طلقته منذ 20 سنة رغم المحاولات المتكررة التي كللت بالفشل إلى أن تلفظت الأم باكية قبل انقطاع المكالمة باسم شقيقها مراد (عادل جعفري) الذي كانت تجمعه بها علاقة جد متينة لولا الظروف التي فرقتهما و جعلتها تستأصل نفسها من وطنها لتبتعد عن ألم الذكريات وجرح الماضي فاتخذت من فرنسا مستقرا لها فصارت مصورة مشهورة و اسما بارزا ذاع صيته من دولة المستعمر، نفس الأسباب التي جعلت من ”مراد” أمير جماعة إرهابية نتيحة التشتت الأسري بسبب ذهنية الأب المتسلط الذي يمثل الرجل الثوري لكنه في العمق يعكس صورة المسؤول الفاسد و الديكتاتور المتخفي وراء مبادئ الثورة التحريرية، الممارس لكل أشكال العنف النفسي و الجسدي، المسيطر على أبناءه و المانع لتحقق أحلامهم الذي وصل به انحرافه إلى اغتصاب ابنة صديقه الشهيد الذي يعترف أنه حي بفضل تضحيته، فالعهد الذي عاهد عليه الشهداء بالأمس خانه اليوم وهو الذي وعد بأن يعاملها كواحدة من أبناءه لكنه فعل فعلته بسامية (ريم تاكوشت) التي لم تجد سترا لها من الفضيحة سوى ابنه ”مراد.”
رحلة البحث عن الحقيقة في دهاليز الحياة
”كريمة” و بمجرد عودتها للجزائر أخذت تسأل عن أخيها مراد فقيل لها أنه في السجن، حينها بدأت في رحلة البحث عن حقيقة لمعرفة سبب سجن أخيها، و إذا بها تجد الجواب الكافي عند أحد أقاربها السي السعيد (أحمد بن عيسى) الذي يبدو أنه يتمتع بسلطة و نفوذ كبيرين لأنه و بفضله تمكنت من زيارة شقيقها المسجون في أقصى الصحراء، و في مشهد أثار الغرابة في نفوس المشاهدين الذي كانوا يتابعون تلك الأحداث بكل تركيز، بعد عودة كريمة من السجن سألتها ابنة أخيه�� قائلة: ”هل رأيتي أبي ساعديه للخروج من السجن… و إذا بالأم من جهتها تطلب منها المساعدة كونها لا تريد لأبنائها أن يعيشوا اليتم الذي عاشته…” حينها لم يكن المخرج قد فك اللغز و لم نكن ندري أن سامية ليست شقيقة مراد و كريمة بل تربت معهما فقط و هنا أبدع المخرج بكشف جوانب هامة باستعمال الفلاش باك و استعرض قصة سامية التي أتى بها ”السي أحمد” للعيش مع أبناءه و بتصاعد وتيرة الأحداث ورغبة المشاهد في معرفة المزيد عن القصة التي اعتمد مهندسها على عنصر الغربة في البداية يليه التشويق فبعدها توالت الأحداث و الحقائق التي اتضح بعضها وانكشف صاحبها و المقصود هنا فعلة ”السي أحمد” الذي يدافع دوما عن الثورة و يشير إلى أن شباب اليوم لا يدرك قيمة و أهمية التضحية التي قدمها الشهداء و المجاهدين عكسه هو طبعا الذي تاجر باسم الوطن و الثورة قبل أن يقع حبيس المعدات الطيبة التي كانت تسجل نبضات قلبه الأخيرة، و بعد إصرار كل من سامية ووالدة كريمة على هذه الأخيرة بضرورة رؤية والدها تدخل عليه بخطوات متثاقلة و مع تكرر الزيارات تلتقي عمها ”السي سليمان” (أمحمد بن قطاف) الوطني المخلص لبلده، الوحيد الذي يكشف لها بالدليل و الصور حقيقة أخوها مراد و تصطدم حينها بحقيقة الأخ الذي حوله قهر الوالد إلى أمير منظمة إرهابية نفسها التي أوقفت شقيقته و زوجته -في آخر زيارة قادتهما إليه للسجن- في حاجز مزيف اغتيل كل من كان في السيارة التي كانت تقل الركاب بما فيهم سامية و كريمة غير أن الأولى لفظت أنفاسها الأخيرة برصاصة الجماعة التي كان ينشط فيها زوجها و الثانية نجت ولم تنجو ذاكرتها من تلك الوقائع و الدموية، ليوقع رشيد بن حاج نهاية ”عطور الجزائر” بشهادات منتقاة من الأرشيف لبعض المناضلات و المدافعات عن المرأة كوزيرة الثقافة الحالية ”خليدة تومي” التي أعجبت بالعمل الذي أعاد إليها هي الأخرى ذكريات العشرية و أيام نضالها لأجل الحرية و الديمقراطية.

هي قصة الفيلم التي تطرح جانبا مهما غير العشرية و بتأخير الشين و تقديم العين قليلا تستقيم الأحرف و يصبح الحديث عن الشرعية الثورية التي كان لرشيد بن حاج الشجاعة للخوض فيها و الإشارة إليها بلغة سينمائية، وصلت الى زوايا لم يكن باقي المخرجين بالغيها، ورغم مشاهد الموت و صحوة الجزائريين حينها على وقع التهديدات و طيش رصاصات التعصب باسم الدين إلا أن المخرج أعطى ل ”عطور الجزائر” رائحة طيبة تبعث الأمل و نسائم الخير و السلام و الرغبة في الاستفاقة من الكابوس و الخروج من النفق المظلم كانت تفوح من كل مكان، و هي صورة تعمدها ليصدر صورة الجزائر البيضاء، و من جهة أخرى قد يكون رشيد بن حاج المخرج الوحيد و حتى لا نبالغ من المخرجين القلائل الذي أرادوا تكريم المرأة و الوطن معا فأحسن صنعا و أحسن الطاقم الفني الذي يضم خيرة الممثلين أداءاً و تمثيلا و التحية كانت إلى الطاقم التقني الذي ارتقى بالعمل في مقدمتهم مدير التصوير ”فكتوريو ستورارو” الحائز على ثلاث أوسكارات و الذي تمكن و فريق عمل محترف من الارتقاء بالصناعة السمعية البصرية.
سقطات ”عطور الجزائر”
على ما يبدو أن المخرج إما أنه أغفل عن بعض التفاصيل أو أنه لم يجد أماكن تصوير جيدة تتماشى و طبيعة الفيلم و الفترة الزمنية التي حددها 1998، فقد خانه الحظ هنا لأنه صور بعض المشاهد في بنايات مشيدة حديثا أي بعد 1998، تظهر فيها وسائل نقل حديثة دخلت حيز التشغيل مند أشهر فقط
كانت كريمة تذكر شقيقها في كل مرة أن الله غفور رحيم و تحثه على العفو لكنها لم تطبق النصيحة على نفسها و تفعل ذلك مع والدها الذي خدرها و أخذها إلى أقصى الصحراء بغية تزويجها بأحد كهول المنطقة… فما فعله الوالد المغتصب لأعراض الغير لا يقارن ربما مع الإسلامي المتطرف من قطع رقاب الصغار قبل الكبار بدون رحمة.
لم يكن حقد سامية على من أواها في بيته مغتصبها في نفس الوقت بادياً عليها -حسب ملامح وجهها- كحقد ابنته عليه التي كانت ترتسم على وجهها كل عبارات الحقد و عدم الرغبة في خلق فرص للتسامح على أخطاء الحياة، فهل التي اغتصبت بالأمس عفت اليوم و من قهرت بالأمس لم تستطع العفو حتى بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن ؟ فأيهما أشد درجة التي سلب منها شرفها أم التي انتزعت منها حريتها فوجدتها في غير موطنها ؟

نبذة عن رشيد بن حاج
ولد رشيد بن حاج سنة 1949 بالجزائر العاصمة، تحصل على شهادة من مدرسة الفنون لباريس وهو يعيش ويعمل منذ سنوات بروما، ولقد افتتح البرنامج المنظم مؤخرا بالتعاون بين الصالون الدولي للكتاب بالجزائر ومتحف السينما الجزائري بفيله المطول “الخبز الحافي” المقتبس من كتاب المؤلف المغربي محمد شكري، قام رشيد بن حاج بإخراج فيلم وثائقي حول وضعية المهاجرين في بيوت قصديريه قرب مدينة نيس ثم التحق بالتلفزة الجزائرية، بعد ذلك أخرج فيلم بعنوان “رقم 49” حول مشكل السكن، ثم “لوس” (1989) الذي تم اختياره في كان، بوستن، قرطاجة، وقادوقو وروما وتحصل على العديد من الجوائز. في 1993، أخرج “توشيا”، ثم في 1997، “شجرة الأقدار المعلقة” الذي أنتجه ماركو بيلوجيو للتلفزة الايطالية، ولقد تم اختيار “عطور الجزائر” للمشاركة في العديد من المهرجانات الدولية المهمة، أولها مهرجان أبو ضبي من 11 إلى 20 أكتوبر، حيث سيتم عرض الفيلم يوم 17 أكتوبر .2012