نكهة خاصة لمهرجان أبو ظبي السينمائي هذا العام
أبو ظبي / عدنان حسين أحمد
ينطوي مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي في دورته السادسة على نكهة خاصة قد تكون متأتية من غنى مسابقاته الرسمية الخمس، إضافة إلى محاوره الثلاثة الأخرى التي تتمثل بعروض السينما العالمية، والبرامج الخاصة، والأحداث الأخرى اللافتة للانتباه.
ولا شك في أنّ إسناد رئاسة المهرجان هذا العام إلى الأستاذ علي الجابري هو جزء مهم من هذه النكهة المتفردة التي أشرنا إليها تواً لأنها تضفي على المهرجان صفة إماراتية خالصة تشهد بالجهود الثقافية لأبناء هذا البلد الكريم الذي تحوّل إلى حاضنة لمختلف الأنشطة الفنية والفكرية.
إنّ من يُلقي نظرة عاجلة على دليل الدورة السادسة لمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي سيجد من دون عناء كبير أهمية الأفلام التي تم اختيارها للمسابقات الخمس، ففي مسابقة الأفلام الروائية الطويلة استمتع المتلقون من كافة المستويات الثقافية بباقة من الأفلام الروائية التي لا تغادر الذاكرة بسهولة نذكر منها فلم “أعراف” للمخرجة التركية المتفردة يشيم أوسطا أوغلو التي تناولت في فلمها ثنائية النزوة العابرة والعِشق المقيم من خلال قصة حب زهرة وأولغن التي دخل عليها ماهور من حيث لا يحتسب الجميع فزرع في أحشاء زهرة جنيناً غير شرعي وغاب في أفق الطريق ولم يترك أمام هذه الضحية سوى أن تجهض هذا الجنين الذي أحبته وأرادت أن تحتفظ به لولا خشيتها المفرطة من القيم والتقاليد الاجتماعية التركية القاسية. لم يخرج الفلم البريطاني “كل يوم” لمخرجه مايكل ونتربوتوم عن محور الحُب أو الحاجة الجسدية التي قد تستفيق في غياب الزوج بسبب دخوله السجن لأنه ارتكب جريمة أو جنحة يحاسب عليها القانون، فقد ضعفت كارين أمام “أدي” وقبّلته غير مرة بينما كان زوجها “إيّان” قابعاً في سجن ناءٍ وبعيد يدفع فيه ضريبة تعاطيه غير القانوني مع المخدرات. لا تقتصر فكرة الفلم ومهيمنته الرئيسية على فعل الخيانة العابرة التي قد تنجم عن حاجة جسدية خاطفة لا نستطيع أن نقدم لها تفسيراً منطقياً، فكارين ماتزال متعلقة بزوجها وتحبه حُباً جماً، وقد لمس “إيان” هذا الحب، لذلك صفح عنها وترك لهذا الحب أن يأخذ مجراه الطبيعي وكأن المخرج أراد أن يحذرنا من خطر السجون التي يمكن أن تقوّض البنية الأُسرية في المجتمع، وتأخذ الأطفال إلى عالم الجريمة والضياع.

ينضم فلم “جنجر وروزا” للمخرجة البريطانية سالي بوتر إلى هذا السياق العائلي حتى وإن أخذت مهيمنة الفلم وفكرته الأساسية طابع النشاط السياسي المناوئ لمخاطر القنبلة النووية التي تهدد مصيرنا جميعاً على الكرة الأرضية، فالفلم يمزج بين الحب، والعلاقات العاطفية خارج الإطار الأسري، وتفكك الأسرة البريطانية في ظل هذه التشابكات المعقدة. ثمة أفلام روائية أخرى اشتملت عليها المسابقة وهي على قدر كبير من الأهمية مثل فلم “مانموتش” للمخرج التونسي نوري بوزيد الذي يرصد المدّ الديني الذي يعصف بالعالم العربي ويحاول أن يخنق العلمانيين والليبراليين والمتفتحين على الحياة الحضارية المعاصرة. لاشك في أن أفلاماً روائية من هذا النوع تلفت انتباه المتلقين ومحبي السينما سواء من المواطنين الإماراتيين أو من العرب والمقيمين الأجانب في هذا البلد المضياف، وسوف نتوقف عندها لاحقاً في دراسات نقدية منفصلة.
لا تقتصر هذه الأفلام المهمة على مسابقة بعينها، ففي محور “آفاق جديدة” هنالك عدد كبير من الأفلام المتميزة نذكر منها “خلف التل” للمخرج التركي أمين ألبير الذي يعالج ثنائية المُقيم والراحل، إذ يتعرض أهالي قرية تركية نائية إلى هجمات متعددة غامضة من أناس رُحّل يدهمونهم من وراء التل، لكننا كمتلقين لم نرَهم، ولم نتيقن من وجودهم، فهم يحضرون من خلال القتل الذي يمتد من الماشية إلى البشر. لابد من الإشارة إلى فلم “المواطن” للمخرج سام قاضي الذي يتناول قضية حساسة تتعلق بالصورة النمطية للمواطن العربي أو المسلم الذي يعيش في الغرب الأوروبي، ويصبح ضحية لتهمة جاهزة ومعلّبة يمكن أن تطاله في أية لحظة. لابد من الإشارة إلى أن هذا الفلم قد قوبل باستحسان الجمهور الذي صفّق غير مرة لـ ” ابراهيم الجرّاح” (الفنان خالد النبوي) الذي تألق في هذا الفلم على وجه التحديد. وجدير ذكره أن الحضور في صالة قصر الإمارات كان لافتاً للانتباه، وقد تفردت هذه الصالة باستقطاب جمهور غفير على مدى الأيام الستة المنصرمة. ثمة أفلام أخرى مهمة لا يمكن الوقوف عندها جميعاً مثل فلم “عائلة محترمة” للإيراني مسعود بخشي، و “لما شفتك” للفلسطينية آن ماري جاسر وغيرها من الأفلام المتفردة شكلاً ومضمونا.
تتميز الباقة المنتقاة التي ضمّتها مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بقوة رصدها، وعمق تحليلها للموضوعات التي تناولتها هذه الأفلام وسأكتفي بالحديث المبستر عن فلم “يلعن بو الفوسفاط” للمخرج التونسي سامي تليلي الذي توصل بالدليل الدامغ، والحجة القوية إلى أن ثورة الربيع العربي قد بدأت في يناير 2008 في مدينة قفصة ومحيط المناجم، وليس في 14 يناير 2011 فقد قدّم أبناء الغرب التونسي العديد من الشهداء والجرحى والمصابين، وقد وقفوا ضد سياسة الطاغية بن علي وقرروا اقتلاع الظلم من ربوعهم. ثمة أفلام وثائقية كثيرة جديرة بالمشاهدة وهي تدلل قطعاً بأن لجنة اختيار الأفلام المشاركة في المسابقات الرسمية تقوم بواجبها على أكمل وجه، وتنتقي الأفلام ذات السوية الفنية التي تبقى في ذاكرة المتلقين.

أما برنامج “عروض السينما العالمية” فهو مدهش بحق، ولأنني قادم من لندن، وكنت مطلعاً على طبيعة برنامج مهرجان لندن السينمائي لهذا العام فقد لفت نظري كمية الأفلام المشتركة التي يعرضها مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي ومهرجان لندن في الوقت ذاته ولعلي أشير هنا إلى أن فلم الاختتام لمهرجان لندن هو “الآمال الكبيرة” لمايك نويل الذي شاهدنا هنا في مهرجان أبو ظبي، هذا إضافة إلى القائمة الطويلة من الأفلام البريطانية المدهشة التي وجدت طريقها إلى مهرجان أبو ظبي بفضل القائمين على المهرجان بدءاً من رئيسه الاستاذ علي الجابري، مروراً بالمبرمجين وعلى رأسهم الأستاذ انتشال التميمي، وانتهاء بأبسط عنصر متطوع يقدّم خدماته الجليلة لإنجاح مهرجان أبو ظبي السينمائي وإظهاره بالصور التي تليق بالعاصمة الإماراتية العزيزة، وبشعبها المضياف.
لابد لي أن أشير في خاتمة المطاف إلى مسابقة “أفلام الإمارات” التي يديرها الأستاذ صالح كرامة، وهو شخصية مسرحية وسينمائية إماراتية معروفة، أضفى هو الآخر نكهة خاصة على الدورة السادسة لمهرجان أبو ظبي السينمائي الذي يتقدم بخطىً حثيثة نحو حصد النجاحات المتلاحقة التي تعزز مكانته بين المهرجانات الإقليمية والعربية والدولية. وبعد أن طوى المهرجان سنته السادسة صار بإمكاننا القول من دون تردد بأنه قد أصبح علامة فارقة بين المهرجانات العالمية التي تغري العاملين في الشأن السينمائي في كل مكان أن يجدوا طريقهم إلى هذا المهرجان المتألق الذي تفتخر أبو ظبي باحتضانه، ورعايته، ومدّه بكل مقوّمات النجاح التي يتوفر عليها هذا البلد الكريم.