“يلعن أبو الفسفاط”..الثورة التونسية انطلقت في 2008
اشترك في مسابقة الأفلام الوثائقية للدورة السادسة لمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي اثنا عشر فلماً نذكر منها “عالم ليس لنا” لمهدي فليفل، “قصص نرويها” لسارة بولي، “اللائحة” لبيث ميرفي و “يلعن بو الفوسفاط” لسامي تليلي الذي نحن بصدد قراءته وتحليله تحليلاً نقدياً. حري بنا أن نتساءل أولاً: هل بدأت ثورة الربيع العربي في تونس عام 2011 حقاً، أم أنها تمتد إلى الأيام الأولى من يناير عام 2008 حيث انطلقت فيها شرارة الانتفاضة الاحتجاجية في منطقة الحوض المنجمي التي قام بها المعلمون، والعاطلون عن العمل، والشباب الذين كانوا يرزحون تحت ظروف حياتية صعبة ومريرة؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يطرحه فلم “يلعن بو الفوسفاط” للمخرج التونسي سامي تليلي. وللبحث عن إجابة شافية لهذا السؤال لابد للمتلقي أن يشفي غليله بواسطة الاستماع إلى كل جملة معبِّرة يتفوّه بها أي شخصية من شخصيات هذا الفلم التي قالت كل ما عندها من دون خشية أو وجل.

ينطوي الفلم على أكثر من فكرة مهيمنة، لكن أبرزها على الإطلاق هي أن الناس البسطاء هم الذين يحفرون في أعماق المناجم غير أن هذه الخيرات تذهب إلى جيوب أناس محددين بينما الشعب يعاني من الفقر والجوع والحرمان. يقدِّم الفلم معلومات إحصائية دقيقة تفيد بأنّ 25% من الاقتصاد التونسي يعتمد على الفوسفات، لكن الثروات الناجمة عن هذه المادة تذهب إلى رأس السلطة وحلقته الضيقة التي تفتك بالبلاد والعباد. وبهذا المعنى فقد تحوّل الفوسفات من نعمة إلى نقمة طالما أنه يفضي إلى تفقير المواطنين التونسيين. لقد تحملت الطبقة الفقيرة هذا الظلم والتعسف لسنوات طويلة، وحينما لم يجدوا بصيص أمل في نهاية هذا النفق المظلم قرر غالبية أبناء قفصة والحوض المنجمي أن يخرجوا في مظاهرات احتجاجية مطالبين بحقوقهم الطبيعية في ثروات بلادهم، لكن السلطة القمعية في تونس آنذاك اعتبرتهم عصابات خارجة على القانون تقوم بأعمال الشغب بهدف إرباك الوضع الأمني للبلاد. دعونا نقرأ التُهم الموجهة إلى الشاب مظفر العبيدي الذي نعتته السلطة التونسية بأنه “منخرط في عصابة بقصد ارتكاب جريمة الاعتداء على الأشخاص والأملاك العامة والخاصة، كما يسعى هو وأقرانه من المتورطين في أعمال الشغب إلى تعكير أمن البلاد”. إذاً، فتُهم السلطة جاهزة، والإعلام الرسمي مكرّس لتشويه صورة المحتجين والمطالبين بحقوقهم القانونية والإنسانية. ذكر أحد المشاركين في تظاهرات يناير 2008 بأن مشكلة التنمية والبطالة لم تُحل، وإنها تمتد إلى ما قبل هذا التاريخ تحديداً. استعمل المخرج تليلي تقنية “الفويس أوفر” لتسليط مزيد من الضوء على طبيعة هذا الإشكال الذي يعاني منه غالبية الشعب التونسي، وقد وصفته الذاكرة الشعبية بطريقة مبسطة وواضحة مفادها أن هذه البلاد ذات المساحة الصغيرة هي كبيرة في شأنها ومقامها، وأنها غنية في جوفها، لكنها فقيرة في سطحها، وأنها ترى أن السلطة هي التي أفقرتها أو حكمت عليها أن تكون فقيرة، لكنها وصفت هذه الحكاية بأنها طويلة وأنها جزء مبتسر من “مسلسل ألف حيلة وحيلة”.
تناوب على البوح أو السرد الاستقصائي أكثر من عشر شخصيات رئيسية نذكر منها بشير العبيدي، عدنان الحاجي، عادل جيّار، جمعة الحاجي، ليلى خالد العبيدي وعقيلة المغزاوي وغيرهم، آخذين بنظر الاعتبار أن غالبية هذه الشخصيات إما إن تنتمي إلى التعليم أو العمل النقابي، وحينما تفجرت هذه المظاهرة الاحتجاجية اضطروا إلى الاختباء في الجبال أو مناطق نائية، بعيداً عن قبضة رجال الأمن وعناصر الشرطة السرية، ذلك لأن مدينة الرديِّف التي استمرت فيها الانتفاضة لمدة 6 أشهر وسواها من القرى والمدن الصغيرة الواقعة في الغرب التونسي قد أصبحت مناطق ساخنة برمتها، تعصف بها الصراعات والتجاذبات الحادة الأمر الذي دفع السلطة لعدم تمثيلها وتهميشها على مستوى القرار السياسي.
يؤكد عدنان الحاجي وهو معلم ونقابي وهو زعيم الحركة الاحتجاجية (“54” سنة) بأن السلطة التونسية اتهمته بأنه “زعيم عصابة مفسدة” فلا غرابة أن يصدر الحكم بسجنه لمدة عشر سنوات وشهر مطالبين إياه بفك الاعتصامات وإنهاء حالة العصيان المدني، لكنه يتساءل: ما هو المقابل لإنهاء هذه المظاهرات الاحتجاجية؟ فالمظاهرة ليست عفوية، وإنما هي حركة احتجاجية منظمة على طريقة التشغيل، وقلة الرواتب، والقمع، والرشوة والإرهاب الذي تمارسه الدولة ضد أبناء قفصة والرديّف والحوض المنجمي وغيرها من القرى والمدن المجاورة لمناجم الفوسفات. ذكر الحاجي بأن المواطنين في كل هذه المدن والقرى قد تحملوا أعباء كثيرة لا تقل عن أعباء المحتجين ومعاناتهم اليومية. الغريب أن النقابة قد وقفت ضد المحتجين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة، ويؤكدون على محاسبة المفسدين.
وكدأب الإعلام الرسمي في ظل الدكتاتورية كان بعض الصحفيين والإعلاميين يقومون بتزييف الحقائق ونقل صورة كاذبة عن مؤازرة أبناء هذه المدن لرأس النظام المخلوع زين العابدين بن علي. لقد نجح إعلام السلطة بقدر أو بآخر في التعتيم على هذه المظاهرات الاحتجاجية المبكرة وقمعها، لكنها ظلت مثل الجمر الراكد تحت الرماد وحينما هبّت رياح الربيع العربي في 2011 كانت تونس هي السبّاقة في هذا الربيع المتوهج الذي أُسقط فيه بن علي في غضون أيام معدودة، لكن الأمر الذي يأسفون عليه هو أن حقوق الشهداء والجرحى قد غُمطت حتى بعد سقوط بن علي، ففي الوقت الذي كان فيه النظام الاستبدادي السابق يستكثر عليهم صفة الشهيد، لم يضمن لهم النظام الديمقراطي الجديد استحقاقاتهم الطبيعية، ولم يرد لهم الاعتبار. وقد أرانا مخرج الفلم العديد من الشهداء الذين واجهوا مصائرهم المحتومة أمام قسوة الجلادين وعنفهم أمثال عبد الخالق والحفناوي وعشرات الشهداء التي خضبت دماءهم الطاهرة أرض الرديف والحوض المنجمي برمتها. يكرر المخرج تليلي بأن الانتفاضة الأولى قد اندلعت بسبب الفقر، والحرمان، والأمراض المتفشية، وقلة وسائل الترفيه، والقمع، والظلم اليومي الذي لم يعد يتحمله المواطن التونسي وهو يرى خيرات بلاده تنهب في رابعة النهار.
لقد قرر هؤلاء المنتفضون أن يقتلعوا الموت من أرضهم، ويضعوا حداً للقمع السلطوي الذي يفتك بفلذات أكبادهم، فثمة عطش حقيقي للحرية في كل ربوع تونس الخضراء التي تحملت كثيراً حتى طفح الكأس وبلغ السيل الزبى.
لابد من الإشارة إلى الكلام الحميمي المعبِّر الذي قاله مظفر المغترب الذي عاد من باريس، لكنه لم يشعر بفرحة سقوط بن علي لأنه كان بعيداً عن تونس في حينه. وكان يردد هذا الشاب بيت شعر مألوف: “بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة / وأهلي وإن شحّوا عليّ كرام”.
نخلص إلى القول بأن حركة الرديّف كانت الشرارة الأولى التي أوقدت حركة 14 يناير 2011، لكن الصحافة المرئية والمكتوبة والمسموعة قد غيّبتها وغمطت حقها، وأن ذوي الشهداء والجرحى يطالبون بحقوقهم ورد الاعتبار إليهم لكي لا تبقى قفصة بؤرة توتر، أو جرحاً ينزف على الدوام، كما يجب محاسبة القتلة قبل البدء بعملية المصالحة الوطنية.

لم تُقدّم الحكومة المنتخبة أي شيء للشهداء سوى خيبات الأمل المتواصلة، فلا فرص عمل، ولا حلول جذرية تلوح في الأفق لكل المشاكل التي ذكرناها سابقاً وعلى رأسها الاعتراف بالشهداء والجرحى والمعاقين وتعويضهم. ربما تكون عودة المغترب خير نهاية لهذا الفلم، فحينما تطأ أقدامه أرض رديّف التي تحكم نفسها بنفسها، فلا وجود لمركز الشرطة أو لأي ملمح سلطوي، حيث يعم الظلام الذي لا يخشاه كثيراً فيردد: ” النور في قلبي وبين جوانحي / فعلام أخشى السير في الظلماء”. أما خاتمة الفلم وخلاصته الفكرية فيجسدها البيت الشعري التالي الذي يكشف عن فحواه الاشتراكي بوضوح تام: ” سنمضي سنمضي إلى ما نريد / وطن حرٌ وشعبٌ سعيد”. جدير ذكره أن المخرج سامي تليلي هو أصيل القفصة، ويعمل محاضراً جامعياً في سوسة، وقد أخرج حتى الآن ثلاثة أفلام قصيرة، إضافة إلى فلمه الوثائقي الطويل الأول “يلعن بو الفوسفاط”.