“ديفيد فينشر” يجمع شظايا الانسان
في فيلم ” الفتاة ذات وشم التنين”
أسامة صفار
حين ينتهي الأمر ولا ينتهي الفيلم سوف تتأكد أنه ينبغي عليك اعادة المشاهدة مرة أخري فالمخرج الماكر ” ديفيد فينشر ” يأخذك من البدايات وقضاياها الي بدايات أخري وقضايا أخري وبينما تنتصف الحكايات في فيلمه فان كل منتصف بداية لقضية جديدة ولو لم يكن الرجل محكوما بوقت لاستكمل لعبة ” البازل ” وظل يجمع أجزاء الصورة الانسانية في أكثر مناطقها ظلمة الى الأبد.
نتحدث هنا عن فيلم ” الفتاة ذات وشم التنين ” والذي لعبت بطولته “روني مارا” مع “دانيال كريج” اخر ممثلي جيمس بوند والفيلم ظل لأكثر من أسبوعين مترددا ما بين المركزين الرابع والخامس في شباك التذاكر الأمريكي قبل أن يبدأ في التراجع.
ويحمل العمل كل ملامح “ديفيد فينشر” بدءا من تتمات أفلامه السابقة وحتي بعض ملامحها الدرامية وخاصة ” الشبكة الاجتماعية ” المأخوذ عن قصة تأسيس موقع التواصل الاجتماعي ” face book” ومؤسسه “زوكيربرج” الى القاتل المتسلسل الذي كان موضوعا لفيلمه “سبعة ” و” زودياك “وحتي ” نادي القتال” و” غرفة الرعب. ”
وديفيد فينشر (1962) مخرج يجيد ضبط ايقاع الفيلم بحيث يلهث المشاهد وراء كل لقطة بينما يقدم “فينشر ” معلوماته بدقة وحساب في أحداث متصلة ومتسلسلة بشكل تصاعدي، ويعتبر المخرج الأمريكي واحدا من أقدر صناع السينما على تجسيد معاناة الانسان الغربي في العصر الحديث من العزلة والوحدة في المجتمعات ولعل فينشر وهو يقدم حكايته الشيقة قد جسد – بوعي أو دون وعي – أزمة الحضارة الغربية والمجتمعات خاصة الأمريكي الذي يعيش حالة ” تفكيكية ” تنتسب اصطلاحيا لما بلوره الفيلسوف الأشهر وعالم اللغويات جاك دريدا بدءا من عام 1963وكان أول تجلياته السينمائية الأكثر دقة فيلم ” صمت الحملان “عام 1991 والذي كان أول ثلاثية قدمها ” انطوني هوبكنز” مع ” جودي فوستر ” والمخرج جوناثان ديم. ”

ويقدم “فينشر ” قصة شابة تعيش اغترابا تاما عن مجتمع متوحش وتفضل الاتصال به عبر شبكة الانترنت ” روني مارا ” من خلال عملها ” هاكر” فالفيلم يبدأ بصحفي يخسر كثيرا بسبب نشره معلومات دون دليل ويكاد يفقد مصداقيته و بالتوازي فان الشابة ” الهاكر” تقوم بعمل تقرير معلوماتي شامل عنه وتقدمه لإحدى شركات الأمن الخاصة ومن ثم يطلب من الصحفي ” ميكائيل ” أن يلتقي بعميد احدى أكبر الشركات العائلية في السويد وفي اللقاء يتفق الطرفان على محاولة الكشف عن سر اختفاء فتاة عمرها ستة عشر عاما منذ أربعين سنة مقابل مبلغ مالي كبير وملف معلوماتي يثبت صحة ما نشره للتخلص من اثار القضية التي تخص رجل أعمال مشهور لكنه يعمل في غسيل الأموال لصالح المافيا
“ميكائيل” المنفصل عن زوجته يترك ابنته المراهقة ومساعدته – عشيقته ويذهب الي أقصي الشمال حيث تعيش العائلة الصناعية الكبرى في احدى الجزر ليبدأ بالتعرف على تفاصيل اختفاء الفتاة كما يتعرف الى طبيعة حياة عائلة ملعونة لا يجمعها سوى المكان والمال ولا توجد علاقات بين أغلب أفرادها ويصفها كبيرها أنها ” مجموعة من الأفراد الأشد بغضا في الحياة كلها
ويتسلم المحقق الصحفي ميكائيل أوراق وملفات القضية ويبدأ في محاولاته لكشف التفاصيل متنقلا في الأماكن في أوروبا ويتعرف على الحفيد الذي يدير الشركات بدلا من جده وفي منتصف العمل وبعد أن يصل الي ما يمكن أن يقوده الى حل يرغب في الاستعانة بمساعد ويرشح الحفيد تلك الفتاة التي صنعت التقرير عنه تمهيدا لاختياره للتحقيق في القضية ” روني مارا ” مرة أخري وقد أغتصبت من قبل الموظف المسئول عنها لكنها انتقمت لنفسها ولكل بنات جنسها
بعد انضمامها اليه يقومان معا بالكشف عن حقيقة قاتل سادي ومغتصب للنساء ويعيدان المرأة التي اختفت في السادسة عشرة الى جدها وقد اقتربت من عمر الستين لكن الفتاة الصغيرة ” روني مارا ” تقع في غرام المحقق الأربعين وبينما كانت قد فقدت اهتمامها بالرجال واتجهت للنساء تعود للسواء بهذا الحب لتنتهي القضية ولكن القصة لم تنته بعد أن حصل المحقق على اجره فضلا عن ملف معلومات لا قيمة له فينفعل مؤكدا أن شيئا لم يتغير في قضيته المهنية بالأساس مع خصمه الملياردير غاسل الأموال فتتدخل مرة أخرى الشابة العاشقة وتطلب منه منحها فرصة لاستكمال الحصول على معلومات يمكن أن تفيده وبالفعل تقدم له ما يثبت ادانة خصمه فينشره في مجلته ويبدأ التحقيق مع الخصم الذي تقتله المافيا بينما تحصل الفتاة الهاكر على نصيب مهول من أمواله عبر تزوير أوراق والتنكر في شخصية أخرى لتعود وقد استقر وضع ” ميكائيل ” وتعتقد أنها سوف تستكمل قصة حبها لكن الرجل يعود الي حياته التي كانت قبل القضية فتلقي بهدية كانت قد اشترتها له في احد صناديق القمامة وتغادر.
شظايا
يجمع ” فينشر” تفاصيل الصورة كما يجمع الطفل قطع البازل وهي طريقة مجدية الى حد كبير في أفلام الاثارة والتشويق لكن الفيلم بما يجسده من تحويل كل البشر الى أدوات لتحقيق رغبات بعضهم البعض دون نظر لما تعنيه انسانية الشخص جعل من استخدام هذه الطريقة مثاليا اذ كانت هذه الشظايا في الجزيرة السويدية ” مقر العائلة الملعونة ” لا تشبه بيوت العائلات اذ بين أفراد جيلها الأكبر اثنان من النازيين انطوى كل منهما على نفسه تماما ولم يعد يتحدث الى افراد عائلته منذ عقود بينما تقرر الثالثة مقاطعة الجميع وترفض البحث عن الفتاة الغائبة وفي حياة البطل “ميكائيل ” مطلقة وأم لابنة مراهقة لا يعنيها سوي أموال زوجها التي سوف تضيع بسبب الغرامة التي فرضت عليه نظرا لعدم تقديم دليل صدق ما نشره .
وفي حياة ” روني مارا ” البطلة أو الفتاة ذات وشم التنين فان ثمة غموض يتكشف بالتدريج اذ تعيش تحت رعاية الولاية نظرا لقيامها بجريمة بشعة في عمر الثانية عشرة حيث أحرقت والدها الذي كان يستغلها جنسيا ثم جاء موظف الولاية المسئول عنها ليكرر الأمر ويهددها بتقارير تعيدها الى الاصلاحية أو السجن ان لم تنصاع لرغباته الحقيرة.

يجمع الفيلم هذه الشظايا الانسانية ال��نعزلة في تفاصيل صورة تحقق لعدد من الأبطال محطات من التوازن النسبي والانصاف حيث تساعد روني مارا الي المحقق ميكائيل ” دانيال كريج ” في حل قضية الفتاة المختفية ويتحقق لها القضاء على مغتصب النساء القاتل الذي يشبه أباها والمسئول عنها من قبل الولاية والذي اغتصبها أكثر من مرة وتساعده أيضا في جمع معلومات موثقة عن خصمه الملياردير المافيوزي وتفوز بأموال طائلة عبر السطو من خلال الشبكة العنكبوتية على أموال طائلة نتجت عن عمله في غسيل الأموال وهكذا يحمي ميكائيل مجلته من الافلاس ومصداقيته كصحفي من الضياع وتكسب مارا أموالا تكفي لحمايتها من أمثال مسئول الولاية وأخيرا يعيد حب روني مارا لميكائيل – رغم فارق السن – الفتاة من عالم الشذوذ الى حياة سوية أما الجد وكبير العائلة فقد تم حل أزمة عمره اذ أنه منذ اختفت الفتاة كان يشعر بضياع تام لدرجة أن شركات العائلة بدأت في الانهيار منذ ذلك التاريخ وهو ما اضطره للتخلي عن ادارتها لصالح الحفيد – بعد موت الأب السكير أو المجرم الأول – ليتضح بعد ذلك أن الحفيد ورث شذوذ واجرام أبيه وينهي المحقق ومساعدته بهذا الكشف لعنة اغتصاب فتيات العائلة وقتلهن.
وبينما تستعد مارا لاستئناف قصة حبها تكتشف أن حبيبها لا ينتمي الا لعالم مفكك تنتهي حاجته منها فيستدير باحثا عن اهتماماته الخاصة وهكذا تعود من حيث أتت وهي التي انعزلت كابنة للقرن الجديد ولعالم النت العنكبوتي مفضلة الاتصال بالعالم عبر الشبكة الا في حدود ضيقة جدا خوفا من شره وقسوته
و” دانيال كريج ” هو “جيمس بوند في الأفلام الثلاثة الأخيرة لكن فينشر ابن اللحظة التاريخية ومخرج اللحظة يحول جيمس بوند الى محقق ينتمي للحظة أيضا ولا يحمل من تراث بوند سوي وسامته وقدرته على الربط أم المسدس والسيارة القادرة على الاختفاء والأجهزة التي ابدع في اختراعها ليو فقد حل مكانها جهاز لاب توب موصول بالأنترنت تحمله تلك الفتاة التي يرشحها وجود اجتماعي قد تنجح في الوصول اليه الى القيام بدور كريج نفسه اذ يعلن فينشر في هذا العمل انتهاء المحقق التقليدي وتوديع العنف المكثف في الأفلام الى عنف مرشد جدا عبر حسم القضايا من خلال الشبكة العنكبوتية و كان أداء كريج في الفيلم قد حرره من جيمس بوند في خيال المشاهد وجعله يصدق الى حد كبير دور المحقق الصحفي.