نصيب الملائكة: حتى لوحاولت أن تتغير.. لن يسمحوا لك

صفاء الليثى
افتتحت بانوراما الفيلم الأوربى الخامسة مساء 3 أكتوبر 2012 بفيلم المخرج كين لوتش ” نصيب الملائكة” الحائز على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان الأخير مايو 2012. اختلف النقاد فى مصر حول الفيلم حيث وجده الكثير منهم غير جدير بالجائزة فى المهرجان الفرنسى العريق، قلة منهم فقط وجدت بالفيلم مذاقا جديدا على أفلام لوتش طعمها بكوميديا إنسانية راقية شعر بها جمهور دار العرض بحى المنيل بالقاهرة، وهو جمهور من شباب الطبقة المتوسطة العليا لديهم ثقافة واسعة ومنفتحون على العالم بكل ثقافاته المتنوعة.
المخرج كين لوتش ولد بمقاطعة يوركشاير بانجلترا، وهو أحد مخرجى الواقعية الاشتراكية البريطانية، بعد عدة أعمال تلفزيونية أنتج عام 1969 واحدا من أروع الأفلام فى بريطانيا. عام 1984 أنتج أحد أفلامه الهامة عمله الوثائقى عن عمال المناجم، بعدها اشتهر فى أوربا وحازجائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان عام 1990 عن فيلمه ” أجندة خفية” وحازها مرة أخرى عام 1993 وتوالت أعماله الهامة والمميزة بموقفها المساند للمستضعفين من البشر، وهوهنا فى ” نصيب الملائكة” مع كاتب السيناريو بول لافيرتى الذى ولد بكالكتا عام 1957 من أم وأب أيرلندى اسكتنلندى، وعمل بول لمنظمة حقوق الإنسان فى نيكارجوا فى منتصف الثمانينيات ثم انتقل للاهتمام بقضايا اللاتينيين والسود أثناء دراسته بأمريكا. وهكذا التقت اشتراكية لوتش مع الميول الإنسانية للافرتى ليقدما معا هذا العمل ذو الروح الاسكتلندية مع تفهم لطبيعة البشر المضطهدين فمنحوهم فرصة جديدة للحياة بشرف.

                                            روبي وزوجته

كين لوتش جعلنا نتعاطف مع السارق الشاب ونخشى ضياع غنيمته التى اقتنصها من سارقين كبار كطريق وحيد لكى يبدأ من جديد حياة نظيفة بعدما رزق بطفل ذكر صحيح البدن حمله بين ذراعية حالما بأن يجعله يعيش فى مناخ جيد على الرغم من صرخة حميه فيه : حتى لو حاولت أن تتغير، لن يسمحوا لك” . الغنيمة اعتبرها لوتش وكاتب السيناريو بول لافرتى نصيب الملائكة من ثورة تقدر بمليون جنيه سيحصل عليها كبار المضاربين بمزاد الخمور العتيقة الحرفة التى يحترفها أهل البلدة فى أيرلندا. وجهة نظر اشتراكية للمخرج المعروف بنضاله السياسى يوضح مسئولية المجتمع والنظام الرأسمالى المستغل وليست مسئولية الفرد. روبى الشاب الذى قدمه لنا السيناريو من خلال المحامية التى ترافعت عنه بنجاح بعد مشاجرة مع آخرين يعايرناه بوالده الشقى وبأخيه رافضين منحه فرصة لبدأ حياته بطريقة مختلفة. المحامية نجحت فى الحصول له على حكم بخدمة المجتمع 300 ساعة وفيها يتعرف روبى على نماذج الفيلم الأخرى التى جمعها السيناريو فى الدقائق العشر الأولى ليربط مصيرهم معا ومع المشرف عليهم الرجل الطيب الذى يصحبهم فى زيارة لمعمل تقطير للويسكى وفيه تظهر المرشدة وتخبرهم عن نسبة تتطاير من برميل الويسكى يسمونها نصيب الملائكة. الزيارة والفكرة التى تبدو صوفية تلهم روبى الموهوب بقدرة على الشم تميز أصناف الخمور للبحث عن طريقة لحياته الجديدة يربى فيها طفله من زوجته المحبة. فى طريق الزيارة يجعلهم المشرف يقسمون بشرفهم مرددين خلفه قسما يشبه قسم فرق الجوالة المدرسية مما يلهب ضحكات الحضور وخاصة بعدما قدم لنا السيناريو وصفا موجزا لمخالفاتهم وجرائمهم الصغيرة فمنهم السارق والمعتدى والسكير غير الواعى والعنيف الذى يبالغ فى ردة فعله فيرتكب جريمة تفسد حقه ممن اعتدوا عليه. كل هؤلاء المدانين يرددون قسما بشرفهم خلف الطيب الوحيد فى العمل والذى سيكافأ فى نهاية الفيلم بنصيب يمثل زجاجة من الويسكى النادر المسروق وجدها روبى البطل الشاب مكافأة مستحقة لأنه هو من فتح لهم طريق جديدا للعمل بعد زيارة معمل التقطير. افتتاحية الفيلم بمشهد كوميدى لسكير يتراقص على شريط قطار ويتم تنبيهه بمكبر صوت ليبتعد حتى لا يؤذى نفسه، على آخر لحظة يمر القطار بعدما نجح السكير فى الابتعاد عن القضبان، وتكون المقدمة الساخرة بداية يتوالى بعدها تقديم أبطال الفيلم من المهمشين الذين نجح السيناريو فى تقديمهم كضحايا للمجتمع وللرأسماليين الكبار. ينسج العلاقة بينهم ليصبحوا فريقا يتعاون ليحقق أحدهم حلمه فى أن يكون أبا صالحا لطفله الوليد ولزوجته المحبة. على عكس تصوير الكبار المتأنقين فى بزاتهم الفاخرة وفى اهتماماتهم الغريبة وهم يتصارعون ويخدعون بعضهم بعضا. قوة الموضوع تجعلنا لا نركز على جماليات الصورة أو الإضاءة أو هندسة المناظر التى ترسم واقع كل مكان حسب وظيفته، بل تبدو كلها من نوافل القول وطبيعة الأشياء لفيلم لمخرج كبير يهتم أساسا بقضايا تنطلق من تفاصيلها المحلية لتقدم رسائل هامة يتعاطف معها كل البشر. يتميز الحوار بالفيلم حتى أنك تخرج وقد ترسخت جمل عديدة وحفظتها برأسك  لما لها من دلالة تشرح الفكرة وتجعلها فى متناول الجميع، ولا ينسى لوتش أن يذكرمباشرة نقده للنظريات الرأسمالية يأتى على لسان السكير الذى بدأ به الفيلم فبدلا من الاعتذار لأنه بتهوره كسر زجاجة الخمر بخبطها مع زجاجة الفتاة السارقة فيقول بحكمة: يمكنك الآن أن تبيع اثنتين بسعر أعلى من الأربعة، فكلما نقص المعروض زاد السعر أليس كذلك!. وكانت الزجاجة نصيبه من زجاجات أربع حرص روبى على سرقتها بمهارة من برميل نادر يساوى مليون جنيه. أحد مشاهد الفيلم الهامة التى كشفت عن نجاح صانعيه فى جعلنا نحن المشاهدين نتوحد مع قضية هؤلاء المهمشين المساكين ونفرح لأنهم نجحوا فى التغير على الرغم من عدم سماح كل أصحاب السلطة لهم بذلك، إذ خفقت قلوبنا والبوليس يستوقفهم وهم بالملابس السكتلندية – جونلة الرجال الكاروهات- ونتنهد مرتاحين حين لم يلتفتوا لزجاجات الخمر بلونها الذى يبدو لغيرالمتخصص كخمر رخيص يناسب هؤلاء الصعاليك. 


إعلان