“عطور الجزائر” في مهرجان أبوظبي السينمائي

شاهدنا أربعة أفلام تدور كلها حول تيمة “الإرهاب” في مهرجان أبوظبي السينمائي. هذه الأفلام هي فيلم مغربي وفيلم جزائري وفيلم تونسي وفيلم أفغاني.
القاسم المشترك بين الأفلام الثلاثة الأولى يكمن في كونها تتفق معا في انتمائها إلى ما يمكن أن نطلق عليه “سينما الرسالة” أي تلك التي تهتم أكثر بالفكرة النظرية التي تتمثل في إدانة التطرف الإسلامي واللجوء إلى العنف باسم الدين، وتسعى إلى كشف تهافت وضعف تلك الدعوة إلى تبني العنف في مواجهة الدولة (التي توصف بالكافرة) دون الاهتمام بشكل السرد، والابتكار في الأسلوب السينمائي واللغة السينمائية، وفضلا عن ذلك، دون أن تطرح تساؤلات متوازنة حول ظهور التطرف كفكر له أسبابه الكامنة في بنية المجتمع (المحافظ بالضرورة) وفي بنية السلطة بتركبيتها المعروفة التي تتراوح بين النظم العسكرية والفاشية العائلية.
أما الفيلم الذي ينتمي إلى أفغانستان (وهو في الحقيقة من الإنتاج الفرنسي) فقد جاء مختلفا تماما، سواء في بنيته أو أسلوبه ولغته، عن الأفلام الثلاثة القادمة من بلدان المغرب العربي الثلاثة.

وسوف نتوقف في هذا المقال أمام الفيلم الجزائري “عطور الجزائر”، الذي رصدت له ميزانية ضخمة، وأتيحت له إمكانات فنية كبيرة، منها على سبيل المثال، مدير التصوير الإيطالي فيتوريو ستورارو، الذي يعد أحد أعظم مديري التصوير في العالم، والممثلة الإيطالية مونيكا جريتوري، كما اشتركت في إنتاجه وزارة الثقافة الجزائرية مع المنتج العالمي طارق بن عمار، أي أن الفيلم أنتج بميزانية ضخمة وتوفرت له كل الإمكانات التي تكفل إنجاز عمل متميز، يعالج الموضوع بشكل عصري، ومن خلال شكل متميز وأسلوب فني جديد، يغري بمتابعة الموضوع.
ورغم ذلك، فقد جاء هذا الفيلم تكرارا لأفلام الرسالة المباشرة، التي تتميز بالخطابة ويشوبها عادة، تكرار الفكرة، واستخدام الصور النمطية، وحشد الكثير من المبالغات الميلودرامية، إلى جانب امتلائه بالصراخ والعويل وبالحوارات الطويلة المرهقة رغم أن المدخل الأولي إلى الموضوع كان جيدا جدا.

بداية الفيلم
يبدأ الفيلم بتقديم الشخصية الرئيسية، وهي “كريمة”.. مصورة فوتوغرافية مرموقة، جزائرية الأصل تقيم في فرنسا منذ أن تركت الجزائر قبل عشرين سنة. وهي تتوج مسيرتها الفنية بحصولها على جائزة جديدة تضيف إلى شهرتها وترسخ وجودها في المجتمع الفرنسي.
“كريمة” – وهي امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها- تبدو منسجمة تماما مع تقاليد المجتمع التي انتقلت للعيش فيه، فهي تقيم مع صديق لها، فرنسي، هجرت اللغة العربية تماما، وقطعت علاقتها تماما بأسرتها ووطنها، لكن الأهل والوطن ينادونها.
ذات يوم تتصل بها والدتها المسنة تطلب منها العودة إلى الجزائر لمساعدة الأسرة في مواجهة تلك (الكارثة) التي وقعت أخيرا بعد اعتقال شقيقها “مراد” بتهم تتعلق بالإرهاب، وتحديدا بتزعم خلية إرهابية تنتمي إلى إحدى الجماعات الإسلامية المسلحة، مما أدى إلى الحكم عليه بالإعدام ما لم يقدم تعهدا مكتوبا بنبذ العنف والاندماج في المجتمع والتخلي عن الولاء للجماعة الإسلامية المسلحة التي أصبح “أميرا” لها.
بعد تردد تقرر كريمة العودة إلى الجزائر.. وبعد أن تطأ قدماها أرض الوطن تبدأ التداعيات تتدفق في ذهنها: كيف كانت علاقاتها الوثيقة في الطفولة بشقيقها “مراد”، وكيف كان مراد طفلا ثم شابا (طبيعيا).. رقيقا، شهما، متسامحا، وكيف كان والدها الذي ينتمي إلى جيل الثورة الجزائرية، يسيء معاملتها، ويقسو عليها ويتهمها بأنها تتنكر لماضي جيله الذي “لولا تضحياته لما كانت تتمتع بما تتمتع به”- كما كان يردد.

شخصية منحرفة
لكن الأمر لم يتوقف أمام الخلافات بين الجيلين، بل يوضح الفيلم كيف أن الأب أصبح شخصية منحرفة، سادية في عنفها، فظة في سلوكياتها، فهو لا يتورع عن الاعتداء على “سامية” ابنته بالتبني، التي كفلها بعد وفاة والدها المجاهد القديم، وكيف تزوج مراد من سامية لكي يسترها ويتستر على جريمة أبيه. كل هذه التفاصيل تأتي إلينا فيما بعد على مدار الفيلم الذي يقوم بناؤه على التداخل بين الأزمنة، بين الماضي والحاضر، والانتقال بين الشخصيات في أطوارها المختلفة، يحاول أن يقدم الوجه المتعصب ولكن المغلوب على أمره مثل سامية التي ترغم ابنتها الصغيرة على ارتداء غطاء الرأس أو ما يعرف بـ”الحجاب”، وكيف ترفض التعامل مع كريمة وتتهمها بخيانة الأسرة والفرار إلى فرنسا، ثم تقترب منها تدريجيا وتصبح أكثر تفهما لها بعد أن تدرك أنها جاءت لكي تسعى لانقاذ مراد من أزمته. كما يقدم الفيلم المتطرف الذي يرفض التراجع عن أفكاره أي مراد الذي يرفض الاستجابة لوساطة “كريمة” وإعلان “التوبة” عن العنف وبالتالي تفادي حكم الإعدام.

لاشك في جمال التصوير، وبراعة ستورارو في التعبير عن المواقف الدرامية المختلفة بالنور والظل واستخدام التكوينات التشكيلية المميزة سواء في المشاهد الداخلية، أو الخارجية، كما يستخدم الألوان بصورة موحية ومبتكرة (يغلب اللون البني المائل للأحمر في مشاهد مواجهة كريمة لواقعها الجديد- القديم الذي تنتقل إليه) كما يستخدم إضاءة تخلق هالة ضوء مميزة حول صورتها وهي تتحرك في الفراغ، في تكثيف لحالة انعدام التوازن التي تشعر بها مع تدفق الذكريات، وعجزها عن التكيف مع الواقع الجديد.
ولاشك أيضا في جمال أماكن التصوير لدرجة قد تساهم أحيانا في تشتيت رؤية المشاهد، وإبعاده عن التركيز على المغزى الدرامي للقطات والمشاهد عندما يتحول “الكادر السينمائي” إلى “كارت بوستال” أو بطاقة بريدية ملونة، كما نرى مثلا في المشهد الذي تذهب فيه كريمة لمقابلة خالها المسؤول الرسمي، في مقره الذي يقع في بقعة شديدة السحر والجمال حيث تطل الشرفة على الفسيحة على منظر طبيعي رائع للبحر والأفق، وكأن الفيلم يروج سياحيا أيضا، للجزائر..!

غير أن المشكلة الرئيسية في الفيلم تكمن في ضعف السيناريو الذي ينحرف من تلك البداية الجذابة التي تشد المتفرج، وبعد المشهد الرئيسي للمواجهة بين كريمة ومراد داخل المعتقل، لكي يتجه نحو المبالغات الميلودرامية والصراخ الكثير والدوران حول الفكرة، وكيف تذهب كريمة لرؤية والدها في المستشفى التي يرقد فيها وقد أشرف على الموت، وكيف يتم اختلاق مشهد محدد تغني فيه النسوة المجتمعات في منزل سامية احتفالا بطفلتها الوليدة، لكي تهاجمهم مجموعة من المتشددين دينيا الذين يرون في الغناء والرقص والموسيقى دلالات كفر، وهكذا يسقط الفيلم في الدعاية للسياسة الرسمية للدولة، فالسيناريو يريد أن يروي عشرات التفاصيل التي يرى كاتبه أنها تدخل في إطار تناول موضوع التشدد الديني والإرهاب، ويرد على المنطق الديني للمتطرف المفترض (مراد) بمنطق ديني مضاد من جانب “كريمة” عندما تقرأ آية قرآنية عليه في الاتجاه المضاد، لكي تؤكد له أيضا أنها لم تنس أصلها ولا هويتها الإسلامية أو لغتها العربية.
كان الفيلم يمكن أن يكون أكثر تركيزا وبالتالي أكثر تأثيرا، إذا ما تم التركيز على تلك المعاناة التي تشعر بها “كريمة” أمام المتغيرات التي شهدتها الجزائر، وليس فقط التوقف أمام محنة شقيقها الذي تغير وأصبح من المتطرفين، دون أن نفهم لماذا، فالمبرر المعلن أنه صدم بعد اعتداء والده على “سامية” وقرر اللجوء إلى “اليقين المطلق” وتغيير المجتمع بالعنف من أجل إقامة “الدولة الإسلامية” خصوصا بعد عودته من أفغانستان (وهي كلها معلومات نعرفها من خلال الحوار)،  كما لم نفهم لماذا تنصح كريمة، الممزقة بين ثقافتها الأصلية وثقافتها الأخرى (الأوروبية)، ابنة خالها التي تنتظم ضمن صفوف المدافعين عن الحريات المدنية وحرية المرأة ضد المتطرفين، بالهجرة إلى أوروبا، ثم تقتنع في المشهد التالي، بالبقاء في الجزائر لنراها تسير في النهاية ضمن صفوف المظاهرة النسائية التي كانت ترفضها!
هل كان موقف كريمة “المتبدل” رد فعل على موقف صديقها الفرنسي الذي أصبح يتجاهل إتصالاتها المتكررة به إلى أن نعرف أنه أصبح مشغولا بامرأة أخرى اتخذها عشيقة له، ويتهرب من القيام بمسؤلياته إزاء كريمة. وهل كان هذا اكتشافا كفيلا بقلب المواقف رأسا على عقب!

المخرج رشيد بلحاج

ثقوب في السيناريو
الثقوب الكثيرة الموجودة في السيناريو والتي تتمثل أساسا في التكرار وتعدد الشخصيات وعدم تركيز الخيوط الرئيسية على أزمة “كريمة” واكتشافها تناقضات مجتمع الجزائر (بعد أن تلاشت منها رائحة العطور، وحل محلها العنف والتمزق الاجتماعي ورائحة الدماء!)، وإفراط المخرج رشيد بن حاج في التركيز على “الخطب” الكلامية والمرافعات التي يضعها على ألسنة الشخصيات المتعددة، وفقدان التوازن بين الذاتي والموضوعي أي بين أزمة البطلة وأزمة المجتمع، كل هذه الأشياء جعل مهمة المونتيرة الإيطالية فرنشيسكا براتشي شديدة الصعوبة في إحكام تركيب أو لملمة أطراف الفيلم، فبدت هناك الكثير من القفزات، والكثير من الترهل والثرثرة البصرية.
ولكن إذا كان “عطور الجزائر” فيلم من أفلام الرسالة، أي أن هدفه الأساي ليس تحقيق الطموح الفني بقدر توصيل رسالة سياسية لجمهوره، فهل وصلت رسالة الفيلم في النهاية؟
لا نظن لأنه اكتفى بالتبني الكامل لوجهة نظر السلطة الرسمية، في تبيان أسباب العنف، مع إدانة الأب الذي يرمز لقطاع من جيل التحرير، وتبرئة السلطة عموما التي لا نراها تمارس أي عنف مضاد، سواء على السجناء أو في خضم حربها ضد التطرف.
ولعل من الجدير بالذكر أن الممثلة الفرنسية (من أصل جزائري) – إيزابيل أدجاني- كانت قد بدأت القيام بدور البطولة في الفيلم أمام الكاميرا، إلا أنها انسحبت فجأة وعادت إلى فرنسا. وذكرت جريدة الشروق الجزائرية (عدد 3 مايو 2010) أنها انسحبت بعد أن أبدت رفضها لمستوى المخرج رشيد بن حاج واعترضت على طريقته في الإخراج، رغم أنها كانت ستحصل، بموجب عقدها، على ثلاثة ملايين يورو مقابل قيامها بدور “كريمة”. وكان أن أسند الدور إلى الإيطالية مونيكا جريتوري التي أدته ببراعة في إطار الملامح المرسومة في السيناريو للشخصية التي تقوم بها.


إعلان