مهرجان “جيهلافا” الوثائقي.. مدرسة اخرى للمهرجانات

للمهرجانات مساراتها ومحتواها وهويتها المرتبطة بالأرض والأنسان، فهي جزء من دورة الحياة ومشهد من مشاهد الواقع فهي ليست نشاطا “قشرويا” ظاهريا بقدر ما هي حدث ثقافي وابداعي اكثر التصاقا بالحياة والأنسان …وأجد ان مهرجان جيهلافا الدولي للسينما الوثائقية الذي احتفى هذا العام بدورته السادسة عشرة نموذجا لتلك المهرجانات المتمردة على الأشكال التزويقية والنمطية ، فهو يقام في مدينة تبعد قرابة 120 كيلومترا من العاصمة التشيكية براغ في مدينة صغيرة بعيدة عن صخب المدن الكبرى ومظاهرها، هنا يتنقل الحشد الكبير من السينمائيين القادمين من انحاء العالم عبر الدروب الحجرية لمدينة تتواضع امام القادمين اليها ببناياتها الواطئة وواجهاتها الجميلة والكل يهرع الى النشاطات اليومية المكثفة التي يعج بها برنامج المهرجان الحافل على مدى اسبوع كامل .
علاوة على المسابقات الرسمية للمهرجان فأنه يشتمل على كم كبير وكثيف من ورش العمل والندوات بشكل ملفت للنظر ، فثمة ورش عمل لصغار المنتجين وورش عمل للمخرجين وورش اخرى تناولت العلاقة بين المهرجانات ووسائل الأعلام والمهرجانات غير الأوربية وسبل التواصل معها وكان مهرجان بغداد السينمائي الدولي ومهرجان ابو ظبي السينمائي الدولي ضيفا هذا الحدث من بين عدد آخر من المهرجانات الدولية.
ومن الجهة الأخرى اقام المهرجان دورته الأولى لمؤتمر مدراء المهرجانات السينمائية وذلك من خلال اختيار قرابة 10 مهرجانات من انحاء العالم قدم ممثلوها عرضا بالصور قوامه 20 صورة فقط يفترض ان تكشف عن كل ما يتعلق بالمهرجان : التحضيرات، الجمهور المستهدف، الورشات والندوات المصاحبة، المسابقات، الافتتاح والختام وغير ذلك مشفوعة بتعليق موجز ومكثف وكان من بين المهرجانات التي اختيرت هذا العام : مهرجان زغرب للسينما الوثائقية، مهرجان مرسيليا للسينما الوثائقية، مهرجان كالفورنيا للسينما الوثائقية، مهرجان بغداد السينمائي الدولي، مهرجان تامبير السينمائي في فنلندا، مهرجان ابو ظبي السينمائي الدولي ومهرجانات اخرى .
هذا العرض الثري والمكثف اثار جمهور المهرجان تاركا نقاشا واهتماما ملفتا للنظر فيما يتعلق بهوية المهرجان وارتباطه بثقافة البلد نفسه وهويته الثقافية والإبداعية وقد علق مدير مهرجان جيهلافا “ماريك هوفوركا ” قائلا :” اننا من خلال هذه التجربة الفريدة نطلق الدورة الأولى لمؤتمر مدراء المهرجانات من انحاء العالم ووقع الاختيار في هذا العام على مجموعة من المهرجانات الجديرة بالأهمية منطلقين من رؤية اداراتها لوظيفة الفيلم في الحياة اليومية المعاصرة “.
ولعل ما شهده المهرجان من ورشات عمل اشرت بشكل واضح لرؤية في تأسيس وتطوير قواعد متنوعة للحوار بين أطراف العملية السينمائية فمثلا اذا كان المهرجان قد استضاف مدراء المهرجانات وقدموا شهاداتهم المكثفة حول مهرجاناتهم فأنه استضاف ايضا اشخاصا واكبوا المهرجانات وشخصوا ملامحها وهويتها كمثل الشهادات التي قدمها كل من يانا بيتاكوفا التي عملت في الشرق الأوسط لكل من مهرجانات دبي والدوحة تربيكا وقدمت خلاصة تجربتها من خلال عملها في تلك المنطقة من العالم المعروفة بخصوصيتها وسلطت الضوء على ما معنى ان تكون امرأة اوربية تعمل في البرمجة او شؤون الضيوف في مهرجان عربي. في الجانب الآخر عرض “ترولس لاي” رئيس تحرير احدى المجلات السينمائية في النمسا خلاصة تجربته في تغطية المهرجانات وماهي المعايير التي يعتمدها في انجاز التغطيات وكيف يمكن النظر الى المهرجانات على انها ناجحة ، معايير النجاح :هل هي في ضخامة الميزانيات وطول البساط الأحمر واستئجار النجوم ام في البذخ والمظاهر المسرفة ام في البرامج والمسابقات وجودة المختارات ام في النشاطات المصاحبة وسلط الضوء على الجانب الشكلي والهامشي لإقامة ندوات المجاملة والحكي المجرد التي تعجز من ان تخرج بنتائج ملموسة وعملية يكون لها دور او وظيفة في الحد الأدنى لخدمة وتطوير جمهور المهرجانات بشكل عام .
نشر المهرجان دليلا ضخما لضيوفه من المخرجين والمنتجين ومدراء المهرجانات وحرصت برامجه اشد الحرص على توفير فرص اللقاء والتعارف والحوار مع مدراء المهرجانات والمخرجين وذلك من خلال ندوات الحوار التي كانت دائما مقترنة بتوصيات عملية فعالة ومفيدة .ومن بين عدة ورش القيت فيها محاضرات قد شاركت في ورشة متخصصة شارك فيها الى جانبي كل من نيكولاي نيكيتين مدير البرامج في مهرجان برلين السينمائي لوسط وشرق اوربا وانا بورجينون مديرة مهرجان مرسيليا السينمائي الدولي و دانييلا جلابيكوفا مديرة مهرجان براتيسلافا وقد ناقشت هذه الورشة محور التعاون والتنسيق بين المهرجانات وناقشت ايضا دور وسائل الأعلام في تعزيز دور المهرجانات والحوار المطلوب بين الطرفين ونوقشت في الورشة تجارب المهرجانات الأربعة وعرضت نماذج من التغطيات التي انجزت لنشاطاتها وفي الختام تم وضع توصيات حيث اجتمعت الورشات جميعا في صالة واحدة وقدمت كل ورشة توصياتها ثم نوقشت بعض التوصيات والملاحظات لتعتمد في اطار عمل منهجي مبرمج واحد يجري البحث فيه واستكماله في دورات المهرجان المقبلة .

على الجانب الآخر حضيت السينما في التشيك بندوات وورش متخصصة شارك فيها كبار المخرجين والمنتجين في ذلك البلد الذي تتنوع فيه مصادر الإنتاج السينمائي ما بين الدعم السنوي للحكومة ودعم مؤسسة ميديا التابعة للاتحاد الأوربي وانتاج الشركات الخاصة والمعاهد السينمائية لتكون وفرة ملفتة للنظر حقا .
وكان للمخرجين الشباب نصيب في ندوة حوارية شاملة ومطولة بحضور خبراء متخصصين استمعوا لآرائهم وافكارهم وتجاربهم والتحديات والمشكلات التي تواجههم في مسيرة انجاز عملهم وحيث كان التركيز على تلك التجارب الواعدة ركنا اساسيا من اركان وظيفة المهرجان الذي سلط الضوء كثيرا على تجارب السينما التشيكية الواعدة .
ولنأت الآن الى ندوات موازية اخرى لاتقل اهمية عما ذكرناه آنفا مكتفين بعناوينها التي تدل عليها وعلى اهميتها البالغة :
– كيف تكتشف الأفلام ؟ ، عرض تجارب “المبرمجين” في عدد من المهرجانات الدولية وشهاداتهم .
– كيف يمكنك الحصول على دعم وراعين للمهرجان ؟ عرض تجارب مهرجانات
– ماذا يتوقع مدراء المهرجانات من اجهزة الأعلام وما هو المطلوب منها وماذا يتوقع الصحافيون والنقاد من المهرجانات ؟
– ضوء على تجارب ” قسم الضيوف في المهرجانات السينمائية الدولية “.
– صناعة الفيلم وتحديات التكنولوجيا والتمويل ، عرض تجارب .
لعل هذا هو غيض من فيض ما اشتمل عليه المهرجان من برامج واقعية وعملية خفتت عنها فلاشات الكاميرات وضجيج الفضائيات المعتاد حيث كانت جميع المناقشات تجري في اجواء حميمية هادئة بعيدة عن ضجيج الادعاء بقدر ملامسة قضايا السينما في انحاء العالم وعرض تجارب مدراء المهرجانات وحيث قدم مدير مهرجان بغداد السينمائي الدولي عرضا شاملا مدعما بالصور لأعمال الدورة الرابعة من المهرجان التي اختتمت مؤخرا بمشاركة اكثر من 300 فيلما من 60 دولة .
يضيف مهرجان جيهلافا في هذه الدورة اضافة ناجحة وموفقة شهدت عليها غزارة برامجه واقسامه وتنوعها وحسن التنظيم وتنوع المسابقات وكثرة التجارب والمخرجين والمنتجين ومدراء المهرجانات يضاف الى كل ذلك دماثة وطيبة سكان تلك المدينة الحالمة الصغيرة التي كانت تعيش ايام الخريف فباغتها ربيع السينما في واحد من المهرجانات الأثيرة الى النفس والتي ستبقى على البال مع مهرجانات اخرى رائعة في متانة تنظيمها واعدادها واهدافها وغزارة مادتها الفيلمية والثقافية وقد لا ينتبه اليها كثيرون ….