الذاتي والموضوعي.. إشكالية أم وهم..؟؟

ماذا تعني الذاتية في الفن، والفنان كائن موضوعي بامتياز يحيا ويعيش في واقع، يضطره إلى أن يكون جزءا منه فاعلا ومنفعلا ؟؟ وهل الموضوعية قدر مطلق جاثم في عقل الفنان لا يستطيع التحرر منه، في حين أن الذات وهي تتأمل قد تمحو الواقع محوا وتحلق بعيدا ؟؟ وكذا الفن والنص الجميل..
إن الذاتية لا تعني انغلاق الذات على عالم لا قرار له ولا قاع، وهو عالم الخيال الفردي الذي يحمل صاحبه حيث لا تشاء الجماعة فيتخطي الرؤية المتفق عليها. فيصف الواقع على نحو مختلف عما يتفق عليه الآخرون. ويذهب في مواقفه بعيدا/خارج الجماعة..  من ناحية أخرى إن المعطيات المتفق عليها على أنها موضوعية وأنها تعكس الواقع، حقيقةً، ليست في النهاية سوى اتفاقات بين أفراد (كبُر عددهم أو صغُر) أي هو إجماع بين ذوات. فالموضوعية هي اتفاقات ذاتية في صيغة جمع وما الذاتية سوى هضم فردي لمخرجات ثقافية جماعية.
لقد مثلت إشكالية الذاتي والموضوعي إحدى القضايا المعرفية والنقدية التي تأسست في الفلسفة ثم تسربت إلى الفن والإنتاج الجمالي. وهي مرتبطة أساسا بمفهوم الحقيقة في الفن. ومع الفيلم الوثائقي أصبحت هذه الإشكالية أكثر إلحاحا وأسالت حبر النقاد والمنظّرين. وتعود أهمية هذه القضية في مجال الوثائقي إلى ارتباط الوثائقي بالواقع “أكثر مما ينبغي” في أذهان متقبليه وبعض صانعيه أيضا. فالسائد أن الوثائقي يروي قضية موضوعية ويقول حقيقة لم تصنعها الذات بل صنعها الموضوع نفسه.. أو هكذا يعتقد الكثيرون.
ولكن السؤال المطروح والذي لا يقل عن الإشكالية نفسها.. أين تقع الموضوعية في الفيلم الوثائقي؟؟ وإذا خرجنا منها، هل أصبحنا في دائرة الذاتي ؟؟
هذا العدد من المجلة يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة باحثا عن الحدود الفاصلة بين عناصر متشابكة ومؤسسة للفيلم الوثائقي. وهي : الواقع والكاميرا وصاحب الكاميرا والفيلم والمتلقي. أما الواقع فهو المادة الخام التي ينحتها التاريخ ويستوعبها المكان الذي تستوطنه كائناته البشرية وما تنتجه تلك الكائنات من أنظمة للعلاقات ومن تفاصيل الدنيا. وفي حالة الفيلم الوثائقي العلمي فإن الواقع هو تلك المادة التي أو الموضوع العلمي الذي ضبطه العلماء ووصفوه واختلفوا حوله. في كلا الحالتين لا يوجد واقع ثابت بقدر ما يوجد تصور ما للواقع. هذا التصور يصبح موضوعيا إذا اتفق مع السائد المتفق عليه (العلماء، الباحثين، الرأي العام…) ويصبح ذاتيا كلما أطلت مواقف المبدع وخيالاته الرافضة للسائد.
لقد سادت فكرة تبخس من حضور الذات في الفيلم الوثائقي لاسيما تلك الأفلام المرتبطة بمشاريع قومية وإيديولوجية بحجة خدمة “القضية”. وأمام القضية تذوب الذات وتتقهقر لصالح الموضوع. من جهة أخرى سادت فكرة تقول بأن الذات هي الأصل وأن الموضوع هو الفرع وما الموضوعي والواقعي سوى صناعة فردية لعالم جماعي. وأن التجريب يقصي الحقيقة “الموضوعية” وينشئ حقيقة المخرج التي لا يمكن فهما خارج أسوار السينما.

حاولت مقالات هذا العدد أن تطرح أسئلة الذاتي والموضوعي في الفيلم الوثائقي  من وجهات نظر شتى. فقيس الزبيدي حاول تأصيل المسألة في التاريخ النقدي السينمائي ليجيب عن سؤال مركزي وهو كيف تناولت السينما الواقع؟؟ أما سيد سعيد فدرس المسألة من منظور مفاهيمي نظري مركزا على دور الكاميرا في ربط الصلة بين الذاتي والموضوعي. من جهته حاول عدنان مدانات أن يعالج المسألة وفق ثنائية الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي والتقاطعات بينهما. وبيّن بالأمثلة مساحات الإبداع الممكنة في تصرف الذات في الموضوع. أما الباحث والناقد المغربي أحمد بوغابة ذهب في دراسته مذهبا مختلفا حيث اعتبر الموضوعية “مجرد وهم” لا يمكن أن يتحقق وأن الذات هي صانعة الواقع والقادرة على تصويره في انتظار تغييره لأن الوثائقي ككل فن ينشد المنشود ولن يتحقق ذلك إلا بتخطي الموجود أي الواقع الموضوعي الضاغط. وأخيرا تعرّض أمين صوصي العلوي إلى التطور التقني للسينما وأثره على تكسير الجمود في النظرة للواقع وتحديد مفهوم الواقعية واعتبر أن الوثائقي انبنى لعقود طويلة على “أسطورة الواقع” الذي لا يوجد إلا في ذهن صاحبه والذي ما انفكت التكنولوجيا تساهم في إعطاء آفاق جديدة للنظرة للواقع حتى أصبح الواقع غير واقعي أو يكاد.


إعلان