تأسيس المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس
وسيم القربي- تونس
على مدى سنين طويلة، ارتبط اسم تونس بالغياب الكلي لحقوق الإنسان مقابل قمع جائر للحريات وإلجام أفواه التعبير الحرّ. بينما نجحت الديكتاتورية السابقة في انتهاك حقوق التونسيين وتأسيس توجّه بوليسي يقمع كل من تسوّل له نفسه بمعارضة النظام مما جعل الأمن خادما أمينا لذلك النظام المتوحّش. هكذا صارت تونس مضربا للأمثال لبلد لا يحترم حقوق الإنسان بامتياز، وهو ما جعل العديد من القائمين على إظهار الصورة المثلى لسياسة رشيدة يحرصون على تلميع الصورة بأموال لم تكن مباركة بالمرّة… بلد، عاش على أوهام الزيف كغيره من العديد من بلدان العالم الثالث. ومثل الحياة الاجتماعية والسياسية، كان للفنّ نصيب من سياسة الترهيب الثقافي الذي جعل الفنون، ونخصّ بالذكر الفنّ السابع، يرزح تحت مقاصل الرقابة لما تكتسيه الصورة من خطورة توعوية بالأساس.
اليوم، يتنفّس الشعب التونسي الحرّية بحذر مفرط نتيجة تجاذبات سياسية ومخاض ديمقراطي عسير، في حين ضاق المواطن من إلباسه تُهم صورة التونسي الذي لا يحترم حقوق الإنسان وتبرّأ ممّا أسّسه النظام لصورة التونسي عامّة. اليوم، تشهد تونس الإعلان عن تأسيس مهرجان سينمائي دولي يعتني بحقوق الإنسان قد يكون بادرة فنية فريدة ليلتحق هذا البلد بركب الدول المتقدّمة على الأقلّ على المستوى الحقوقي.

الحقوقي والسياسي في السينما التونسية: ثنائية التغييب والغياب
يرتبط مفهوم حقوق الإنسان ضرورة بالسلطة السياسية، وقد كانت بدايات ظهور هذا المفهوم منذ عصر النهضة الأوروبية لتتجسّم بأكثر واقعية سنة 1789 من خلال الثورة الفرنسية التي أسفرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد ارتكز ميثاق حقوق الإنسان بالأساس على المساواة، حيث يتمتّع الإنسان بحقوق وحرّيات مثل التعبير الحرّ والحياة الكريمة والعيش الآمن والتعليم… كما أنه لا يتمّ التمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.
وحسب المادة الخامسة للإعلان فإنه لا يجوز تعرّض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو التعدّي على كرامته.
وباعتبار أنّ السينما إبداع فني غير معزول عن المجتمع فإنها اتخذت بدورها شكلا إيديولوجيا وهو ما يشير إليه الباحث حميد تباتو حيث يعتبر أنّ الفنّ السينمائي “لا يبرز كعلاقة محايدة ومستقلة، ومعزولة عن الواقع، بل يتحقق باعتبار وظيفته الاجتماعية ضمن حقل الصراع السياسي”. وبالتالي فإنّ السينما ارتبطت منذ بداياتها بالسياسة، حيث كانت مرآة عاكسة وتوثيقا لإيديولوجيات القرن الماضي ووثيقة شاهدة على قضايا سياسية وحقوقية واجتماعية ساهم في إنضاجها فكر المخرجين الذين تناولوا الصورة كأداة ووسيلة لنقد السلطة، ويمكن أن نذكر خاصة سينما أوروبا الشرقية على غرار سيرجي إنشتاين وتيار الواقعية الجديدة بإيطاليا والتعبيرية الألمانية وسينما الموجة الفرنسية الجديدة وصولا إلى سينما العالم الثالث الذي اهتمّ بعضها بالقمع السياسي.
ومن بين تجارب السينما الثالثة يمكن أن نذكر السينما في تونس التي شهدت إقحام هذا الفنّ مبكّرا.
وبتأملنا لمدونة الصورة يمكن أن نلاحظ أنّ هذه السينما التي بدأت مشروعها الجنيني في فترة الستينيات لا طالما كانت في صراع جدلي مع السلطة البورقيبية وديكتاتورية بن علي.
تعرّض الكثير من المثقفين والسينمائيين خاصة إلى القمع الثقافي حيث التجأ المخرج رضا الباهي إلى تصوير فيلمه “شمس الضباع” بالمغرب سنة 1972 بعد أن مُنع من التصوير وعرض الفيلم في مرحلة ثانية باعتباره يحتوي على نقد توجهات الدولة آنذاك… لقد عانى المثقف التونسي ويلات التهديد والوعيد حيث زُجّ بالنوري بوزيد في السجن نظرا لمواقفه السياسية. واحتوت الكثير من الأفلام التونسية على نقد ما للسلطة واهتمّت ببعض ما هو حقوقي على غرار فيلم “يا سلطان المدينة” للمنصف ذويب غير أنّ الصورة السينمائية غالبا ما تصل إلى الشاشة الكبيرة معطوبة لكثرة الآثار الرقابية التي نهشتها فيم غاب الشريط الوثائقي عن الوجود.

كما آثر العديد من المخرجين اجتناب السياسة ومشاكلها في صورهم فحاولوا قدر الإمكان الابتعاد عن مجازفات حرمانهم من الدعم المادي، بينما اعتمدت سياسة بن علي بالأساس تدجين البعض من المخرجين الذين فقدوا ضمائرهم وباعوا الالتزام الذي يفرضه الفنّ السينمائي فجُعلوا بمثابة الصورة الزائفة بتناولهم لقضايا حساسة والاستشهاد بتجربتهم في ما بعد للاستدلال على حرية التعبير السينمائي.
وبين هذا التغييب والغياب عانى المبدع التونسي لكنّ معاناته كانت شبيهة بمعاناة العديد من السينمات العربية.
المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس من 06 إلى 09 ديسمبر
ببادرة من المخرج التونسي الياس بكار ستقام الدورة الأولى للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بالعاصمة التونسية من 06 إلى 09 ديسمبر، حيث أكّد بكار أنّ تأسيس هذا المهرجان جاء بعد جولته بفيلمه “كلمة حمراء” واطلاعه على مهرجانات عالمية مشابهة مثل مهرجان حقوق الإنسان بنورنبورغ بألمانيا، كما أنّ الدعم الذي تحصّل عليه من جهات حقوقية شجعه على خوض هذه التجربة.
ومن المنتظر أن يمتدّ المهرجان طيلة أربعة أيام بمشاركة 15 فيلم تمثيلي ووثائقي من فرنسا وبلجيكيا وسويسرا وهولاندا وألمانيا وكندا والسينغال وسوريا ومصر وتونس… كما ستقام ندوات فكرية تهتمّ بالانتقال الديمقراطي والدور التربوي للسينما، ودور مهرجان حقوق الإنسان في النهوض والتربية على أساس قيم عالمية… كما ستحتضن التظاهرة ورشات لكتابة السيناريو من خلال محور حقوق الإنسان وتصويرها في ما بعد، في حين ستشهد دار الثقافة ابن رشيق إقامة معرض للتصوير الفوتوغرافي يهتمّ بنفس المحور.
بعد سنوات من القمع، وبعد إلغاء مفهوم الشرطة الثقافية، يأتي تأسيس هذا المهرجان على إثر ثورة الحرية والكرامة في بلد اشتهر بقمعه للحريات، ويهدف هذا الحدث إلى النهوض بثقافات الديمقراطية وحقوق الإنسان خاصة وأنّ البلدان الغربية تجاوزت الحديث عن حقوق الإنسان الذي أصبح من تحصيل الحاصل وأصبحت اليوم تناقش حقوق الحيوان بعد عصر النهضة الأوروبية، نعيش اليوم على وقع عصر النهضة التونسية وننتظر تغييرا حقوقيا طال انتظاره في حين يقبع نفس الساهرين على القمع الثقافي في عهد بن علي في أماكنهم إلى حدود يومنا هذا.