حوارات حول السينما التجريبية مع هوغو فيرلاند..
حوار : رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني
“هوغو فيرلاند” واحدٌ من مؤسّسي الجمعية الفرنسية L’Etna، ويُعتبر شخصيةً رئيسيةً من “الاتجاه المُختبريّ” للسينما التجريبية ـ الحِرَفية (اليدوية) في سنوات التسعينيّات، تتمفصل مسيرته حول ثلاثة محاور عمل :
ـ الأفلام، والإنشاءات الرقمية.
ـ تلاقي الجسد، والضوء عن طريق التهجين بين الشريط الفيلميّ، والرقميّ.
ـ السخرية السياسية/الإجتماعية.
كانت أفلامه DERVICHES (1992-1997)،

(2001)، وManifeste (إخراج مُشترك مع “هيلين دوشا” 2002) هي البراعم الأولى التي امتدت فروعها في عموم أعماله التي تتضمّن أيضاً معارض لوحاتٍ مُنجزة من صورٍ فيلميّة (كادراتٍ منفردة، أو مجتمعة من أفلام).
تقنيّ (مصوّر)، ودارسٌ للرياضيات، يُطوّر كتابةً ترتكز على التجريد المُبرمج عن طريق الكمبيوتر، تعود باكورتها إلى رسامي التجريد، ونظريات “جيرمين دولاك” حول السينما الصافية، وأعمال الرائد الأمريكي “جميس وايتني”.
ومع أنها مبرمجة، ولكنها غنائية حقاً، ويعترف “فيرلاند” بأنه يُفضل الرسام “كوبكا” على “موندريان”، وأكثر من ذلك، من المهم الإشارة، بأنه لا يعتبر نفسه فيديوياً، ولا مُصمّماً، ولكن، سينمائيّ، وهو يستخدم دعاماتٍ أخرى غير الشريط الفيلميّ الحسّاس كي يتقدم بشكلٍ أفضل في مسيرته الفنية، سينما غنائية خالصة ما أُمكن، وقادرة على منح المتفرج كلّ النشوة المُدوّخة للأحاسيس، والمشاعر.
بصفتكَ تقنياً(مصوراً)، كيف بدأت اهتماماتك بالسينما التجريبية ؟
في عام 1992 حصلت على دبلوم “مدرسة لوميير”، وعملت لمدة عام مصوراً لأفلام قصيرة، وتسجيلية، ولكنّ العمل في إطار فريقٍ، وتراتبية المهمات سرعان ما أصابتني بالملل، حيث أردت التعامل مع الصور المُتحركة من زاويةٍ فنية أكثر، وتصادفت مقاومة مسيرتي المرسومة كسينمائيّ تقليديّ مع اكتشافي لعروض السينما الطليعية، والتجريبية التي كان يُبرمجها “جان ميشيل بوهور” في “مركز جورج بومبيدو”، و”يان بوفيه” من خلال عروضه الدورية تحت عنوان Scratch، وأخيراُ “نيكول برينيز” في “السينماتك الفرنسية”.
في البداية، كنت أشاهد الأفلام من وجهة نظر مصور، وذلك بهدف إلتقاط سياقاتٍ تفيدني في المونتاج، وإخراج صور، أو تحميض أفلام بطريقةٍ يدوية أكثر أصالةً من الوسائل المُخبرية المُعتادة في الصناعة السينمائية، وفيما بعد، تبيّن لي، بأنّ تلك الأفلام التي لا تمتلك غالباً حظ العرض الجماهيري الواسع، تشعّ من لحظاتٍ صافية في السينما، ولم تكن ناجمةً فقط عن تأثيراتٍ تقنية، ولكنها، بالأحرى، تُجسّد فلسفةً أخرى عن السينما.
بدأتُ بتجميع ملاحظاتٍ لم تقتصر فقط حول ما أشاهده، ولكن، أيضاً، ما كنت أشعر به في لحظات التواصل مع تلك الأعمال، الأفلام التخطيطية لوالتر روتمان، هانز ريختر، فايكينغ إيغلينغ شكلت، بالنسبة لي، إكتشافاتٍ كبرى : تشكيليّون قرروا دفع تجاربهم المُتعلقة بالصورة في حقل السينما، هذه الحدود بين الرسم، والسينما أثارت إهتمامي بشكلٍ كبير، كما إنجذبتُ إلى الرغبة المُلحة للسينمائيين البنيويين في الستينيات (توني كونراد، بول شاريتز، بيتر كوبلكا) لإكتشاف عموم الإحتمالات التشكيلية للشكل السينمائي، وأيضاً روّاد التجريب في العشرينيّات.
وهكذا إقتنعتُ، بأنّه يمكن إنجاز السينما عن طريق فنانين، وإثارة مشاعر مشابهة تماماً لتلك التي يُوقظها الرسم، أو الموسيقى في دواخلنا.
لقد تخيرتَ مساراتٍ وجهتكَ نحو “التجريد المُبرمج”…
توجهت أحاسيسي الجمالية الأولى نحو البحث في الفنون التشكيلية، كانت رسومات “فرانزتايزك كوبكا”، بالنسبة لي، مرجعاً في التجريد من خلال قدرتها على استحضار الفضاء، والحركة بدءاً من لغةٍ شكلية خالصة، وصافية : نقاط، خطوط، ألوان (أنظر لوحة “خطوط متحركة” عام 1921) والتي تترجم رغبة الرسام في إستثمار إنتصاب أشكالٍ معقدة بدءاً من مفرداتٍ لغوية مُبسّطة، يمكنني الإشارة أيضاً إلى “جيرمين دولاك”، ومساهمتها النظرية في مجال السينما، وهي التي كتبت في عام 1927 :
“خطوطٌ، مساحاتٌ، وأحجامٌ تتطوّر مباشرةً في منطق أشكالها، بدون تدخلاتٍ مُصطنعة، متخلصةً من كلّ المعاني البشرية كي تتسامى نحو التجريد، وتمنح فضاءً أوسع للمشاعر، والأحلام : السينما الشاملة” .
و”جيمس وايتني” واحدٌ من السينمائيين النادرين الذين نجحوا مبكراً في إلتقاط إحتمالياتٍ تشكيلية من الصور المُنجزة عن طريق نماذج رياضية بدءاً من أجهزة كمبيوتر بدائية : Yantra (1957)، وLapis (1966).
يُظهر Yantra حيويةً خارقةً عن طريق التفاعل المُستمر للتعارضات اللونية، وإعادة المشاهد بسرعاتٍ مختلفة، يُوقظ هذا الفيلم أحاسيس تلعب على عددٍ كبير من التباينات بالإرتكاز على نقاطٍ نجمت واحدةً بعد الأخرى بحسابٍ رياضيّ، وعمل دقيق جداً من صور متعددة متموضعة فوق بعضها، ومنجزةً مباشرةً عن طريق الكاميرا.
بالنسبة لي، لا يمكن فصل فكرة التجريد عن معنى اللغة، يتعلق الأمر لكلّ هؤلاء الفنانين، بتحديد مفردات أشكالٍ مناسبة، وإنشاء تعبيراً حساساً بدءاً من إتقان هذه اللغة، تتوجه خطوتي الشخصية نحو بناء عالماً بصرياً معقداً بدءاً من لغةٍ رياضية، حيث يتلخص بناء الجملة ببعض وظائف بسيطة جداً.
عندما كنت تلميذاً، أبهرتني الحاسبات التصميمية الأولى، إذا عمدنا إلى تغيّير بعض مُعطيات البرمجة، نحصل على منحنياتٍ هي، في بعض الأحيان، أكثر تشكيليةً من أخرى، وهكذا بدأتُ بتجميع بعضها، ولكن، لم تكن وقتذاك أكثر من تجارب ذات بعدين.
في أيّ لحظة مزجت بحوثك المُرتبطة بنماذج رقمية مع ممارستكَ كسينمائيّ تجريبيّ ؟

ـ عندما إكتشفتُ السينما الطليعية، رغبتُ بإستعادة تلك المُخططات لمعرفة فيما إذا كان هناك إمكانية اللعب على معطياتٍ أكثر تعقيداً، كحال الفضاء، والتجسيم، وهكذا أعدت برمجة البرنامج لإدخال بعداً ثالثاً.
في تلك الفترة، لم يكن لديّ القدرة على إنجاز الحركة عن طريق الكمبيوتر، كان الحلّ إخراج عملاً تحريكياً مع الكاميرا : تهجين بين الكمبيوتر، والشريط الخام، وقد سمحت لي تلك الخطوة بنسخ حركة تلك الصور، وفهماً أفضل للديناميكية الداخلية لهذه النماذج التي بدت لي مدهشة، وهكذا أنجزتُ أعمالي الأولى.
كان DERVICHES مختبر أشكالٍ مازلتُ حتى اليوم أواصل تغذيته، وأغرف منه لإخراج كلّ أفلامي، وإنشاءاتي البصرية.
الإنتقال من الشريط الخام، وبشكلٍ خاصّ عن طريق العرض الفيلميّ، منحني الرغبة بعرض هذه الصور حتى على جسد راقصة في ثلاثية Aldébaran (2001)، و Géminga (2003)، و Bételgeuse(2004).
التفكير في لقاءٍ بين الجسد، وحزمة من الضوء، الأشكال، والألوان القادمة من جهاز العرض، والتي تشكل المصدر الوحيد للضوء خلال التصوير.
من أجل هذه الأفلام، أحتفظ بتقنية إستخدام شريط 16 مللي، ولكن، دائماً من أجل مشاهد تجريدية قصيرة جداً، حركات الجسد في حزمة الضوء تمّ تسجيلها بشريط 16 مللي مع آلة تصوير “بولكس”، وبمزج الصور فوق بعضها .
كلّ واحد من هذه الأفلام يطور تيمةَ خاصة به، ولكن، بشكلٍ عام، يهدف عمومها إلى منح ترجمة ذاتية، وعاطفية للبعد المُتحرك للجسد البشريّ.
عندما أصبح بالإمكان تسجيل صوري المُنجزة عن طريق الكمبيوتر في ملفاتٍ معلوماتية، وأفلاماً رقمية، لم أعد ألجأ إلى التسجيل على الشريط الخام، حيث أصبح بإمكاني إنجاز أفلاماً تجريدية بكاملها، كحال Éphès (2004)، و Altaïr (2004).
ومنذ عام 2004 أُبدع إنشاءاتٍ رقمية تأخذ شكل بُنى واسعة من النسيج المطاطيّ(Lycra) كحال IRIS الذي عُرض في مارس 2005 في “مدينة العلوم، والصناعات”، تمّ التفكير بهذه الأحجام كي تستقبل مخروط العرض، حيث تأخذ الصور المعروضة شكل “ماندالا”، دوائر متداخلة في دوائر أخرى مع تحولاتٍ، وإيقاعاتٍ محددة، تتموقع هذه التجارب على الحدود بين الفنّ الرقميّ، والسينما المُتسّعة (أيّ السينما التي تستخدم وسائل تعبيرية متعددة، ومختلفة خلال العرض السينمائي نفسه).
خطوتي الفنية متعددة المعاني، ولكن، تستوحي مصدرها في نشاطٍ معين يتعلق بالبرمجةٍ عن طريق الكمبيوتر، وتتطوّر طبيعياً مع رغبة مُتواصلة في إستثمار الفضاء بدءاً من هذه الصور.
ـ من حوارٍ أجراه “رافائيل باسان” مع “هوغو فيرلاند” في يونيو 2005، ونُشر في المجلة الفرنسية BREF العدد رقم 70 (يناير 2006) ـ .
هوامش المُترجم :
Raphaël Bassan
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان” يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).
ـ للقراءة أيضاً :
التجريد في السينما، تقاطعات.
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/08/2012829951813165.html
ثُريا التجريد خلال قرن.
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/09/20129572042933586.html
روّاد التجريد في السينما.
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/09/201291261847411741.html
السينما البنيّوية.
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/09/201291962728674760.html
التجريد في المشهد السينمائي الفرنسي المُعاصر (1).
http://doc.aljazeera.net/cinema/2012/09/20129278952471169.html
التجريد في المشهد السينمائي الفرنسي المُعاصر (2).
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/10/201210772645767646.html
كريستيان لوبرا، من “الفيلم ما بعد البنيويّ” إلى التجليات السينمائية المُباشرة