“أطفال كينشاسا” يخلطون الوثائقي بالروائي

تسالونيكي (اليونان) ـ قيس قاسم 
ماذا الذي دفع مارك ـ هنري واينبرغ لخوض مغامرة الخلط بين الوثائقي والروائي في فيلمه المعروض ضمن مسابقات الدورة ال53 لمهرجان تسالونيكي؛ “أطفال كينشاسا” مع أن كل ما فيه يكفي لصناعة وثائقي رائع، ليس به حاجة لإضافة لمسات “روائية” عليه؟ ما الدافع إذن؟ هل كانت مغامرة عبور “حواجز” الأنواع، هي من حفزه على ذلك؟ أسئلة مثل هذه يفرضها عليك الفيلم نفسه، فتظل تقلبها في ذهنك محاولاً الاجابة عليها قدر الامكان بمعونة ما يقدمه النص المقترح. من بين أكثر الأجوبة منطقية؛ أن يكون الواقع الذي سجل فيه فيلمه قد فرض عليه الخلط. فقسوة الواقع أحياناً تجبر الخيال على الحضور ليلعب دوره المُخَفف والمُشَكك في صحة وجود الألم بالقوة التي تسجلها الكاميرا الوثائقية. ثم أن عملية المزاوجة تفضي في الغالب الى اشراك الجمهور في لعبة التواطيء بين الواقع والخيال ومسح الحدود الفاصلة بينهما، وربما هذا بعض ما أراده واينبرغ في فيلمه الذي عرض فيه مساحة كبيرة من حياة أطفال شوارع عاصمة الكونغو والبؤس الذي يحيطهم. لم يريد أن يقلل من قساوة ما يعانون لكنه أراد النظر اليه بعين أقل اتساعاً عبر اكسائه غلاف الروائي المتخيل. انها مخادعة الذات لقبول الحياة والمضي فيها، وفي هذة الحالة سنقف أمام عمل سينمائي وثائقي مغلف بخديعة الروائي، و”أطفال كينشاسا” يقبل مثل هذا التوصيف.  

   
   في عاصمة يعيش فيها أكثر من خمسة وعشرين ألف طفل متشرد لا يحتاج توثيق حياتهم عناءاً. يكفي  احضار كاميرا وتثبيتها في أي من زاوية من زوايا المدينة لتسجل لك وجودهم اليومي فيها دون سابق تحضير. ما فعلته كاميرا واينبرغ كان في هذا الحدود، والاضافة الدرامية عليها جاءت في حصر شخوصه بعدد محدد منهم، صاروا بعدها أبطال فيلمه، والفضول لمعرفة تفاصيل حياتهم قاده للمضي عميقاً في أحشاء مدينتهم. مصاحبتهم اليومية أوصلت الفيلم، بطريقة غير مباشرة، الى معرفة نوع العلائق التي تحيط بساكني المدينة وتكوينها. ملامح كينشاسا كما بدت لنا غير واضحة، موزعة، لدرجة التمزق، بين عصرنة مفتعلة غير مستوفية شروط عصرنتها وبين موروث طوطمي مَثَل عنصراً مهماً في تشكيل تاريخها القومي وما ينتجه من ثقافة، ظلت الموسيقى واحدة من أبرز مكوناتها حضوراً، والمشاهد الأولى للاحتفال بطرد الأرواح الشريرة من أجساد الأطفال في شوارع العاصمة كان مدخلاً بارعاً لرسم العلاقة بين ما هو منتمي الى ثقافة أفريقية فطرية وبين أخرى عصرية تفرز تناقضاً صارخاً يدعو الى الضحك ويحمل في طياته مرارة ضياع هويات الكثير من الشعوب الأفريقية.
ينتج الفقر الذي يعيش فيه أطفال شوارع كينشاسا علاقات مشوهة، تُوسم حياتهم. فهم يعتاشون على حيَّل يومية يبتكرونها دون توقف، توفر لهم لقمة عيش مُرّة. يتقاسمون فقرهم وبؤسهم مع عوائلهم فيشكلون بمجموعهم دورة لانتاج فقر مزمن على جوانبه يتحرك رجال الشرطة ويعتاشون بنفس الطريقة التي يعتاش بها المتشردون، ومن هؤلاء يحصلون على ما يبقيهم مواليين لسلطة الدولة. هكذا تبدو صور الأطفال المشردين في مدينتهم، لو تعمدنا حذف العنصر الأميز عندهم ؛الموسيقى، فعلى كل بؤسهم واحتيالاتهم تظل الموسيقى عنصراً متأصلاً في أرواحهم وهي من يجرهم الى طرف الحياة المشرق وتبقي على آدميتهم.
على مساريين أحدهما موسيقي والثاني اجتماعي سيسير  فيلم “أطفال كينشاسا” في ايقاع متناغم، أبطاله عينات من المجتمع الكونغوي، تنتمي أغلبيته الى أسفل التراتبية الطبقية وأن لم يظهر منها إلا القليل، خاصة الأغنياء والمنتفعين من فقر القطاعات الأكثر عدداً في المجتمع، فقد غيبهم الشريط واستبدل وجودهم بمؤسسة الشرطة، المدافعة عن مصالحهم، وأن انتمى أكثر المعروض منهم، على سطح المدينة، الى ذات الطبقات المسحوقة.

في لحظات التعب من إثر مطاردات ومشاحنات خطرة يذهب “أطفال كينشاسا” الى واحتهم الموسيقية، يجربون فيها، بمعونة عازف متشرد مثلهم، تأليف أغنيات وألحان يحلمون يوماً ما بأنها ستصل الى جمهور خارج حاراتهم المصطنعة. وفي لحظات سَكينتهم سيظهر جانبهم الانساني القوي. فكلهم يحلمون أن يصبحوا يوماً بشرا لهم معنى، غير معنى طفولتهم العدمي. وفي ملاحقة دقيقة لتجربتهم في الغناء سنكتشف عمق الموروث الموسيقي في أرواحهم الأفريقية. فهم موهبون بالفطرة والموسيقى تجري في عروقهم وكأنها تسير في مسار منفصل عن الظروف التي يعيشون فيها، مثلهم مثل بقية سكان المدينة. فمن بؤسها يظهر بشر، نساء ورجال يعزفون ويرقصون ويشاركون غيرهم فرحة الاستمتاع بإبتكاراتهم الموسيقية. والمدينة المتشردة والتي تبدو خارج العصر التكنولوجي، تروض كل نتاجها الطفيلي لخدمة الموسيقى، فهي في النهاية البديل الوحيد عن دمار أرواحهم وأجسادهم وعليها يتكأون كما اتكأ عليها من قبل أجدادهم. متناسين بها فقرهم. منفتحين على عوالم روحية لا صلة لها بالمدينة الكريهة ولا بما تفرزه من عذاب. يُختتم فيلم “أطفال كينشاسا” بمشهد تظهر فيه الفرقة الموسيقية التي أسسها الأطفال أنفسهم، ودعوا اليها كل سكان الشوارع ورجال الشرطة، أيضاً، لسماع نتاجهم، فالموسيقى عندهم جامع ثقافي فوق التشكلات المدنية الحديثة. حين بدأوا انشادهم الأول تفاعل الجميع معهم، فراحوا يرقصون سوية على ايقاعات امتدادها في أرواحهم أعرق بكثير من مدينتهم الهجينة ونتاجها البشري المُعذب. 


إعلان