أمل الجمل والوقوع في غواية النقد السينمائي

لندن / عدنان حسين أحمد
صدر عن “دار العالم الثالث” بالقاهرة كتاب نقدي يحمل عنوان “بعيون امرأة” للناقدة المصرية أمل الجمل، وقد ضمَّ الكتاب مقدمة شافية وافية، إضافة إلى ثمانٍ وعشرين مقالة نقدية، ست عشرة منها في النقد السينمائي، أما المقالات الأُخَر فتتوزع بين المسرح والموسيقى والرواية والفن التشكيلي والشعر. ولأنَّ الكاتبة أمل الجمل كانت تبحث عن نفسها قبل سبع سنوات من هذا التاريخ تحديداً، فلا غرابة أن تترجّح بين الفنون القولية وغير القولية، وأكثر من ذلك فإنها اندفعت صوب مهنٍ بعيدة عن الأدب والفن تماما. لقد اكتشفت “أمل” ولَعها بالموسيقى منذ زمنٍ مبكر فأصبحت عازفة بيانو، لكنها ظلّت تبحث عن نفسها القلقة خارج غواية النغم فاتجهت إلى كتابة الدراسات النقدية العامة تارة، وإلى تأليف القصص الرومانسية والتراجيدية تارة أخرى، لكنها لم تستطع أن تكتم الصوت الصادح في أعماقها إلاّ بعد أن اكتشفت عالم السينما الذي جذبها إلى مداراته الساحرة. لنفترض أنها جاءت إلى فضاء الكتابة النقدية من باب المصادفة التي أوقعتها في فخ الهواية أو الغواية أو الانجذاب المُمَغنَط الخارج عن إرادتها، وليس عن طريق القناعة التامّة أو الاحتراف اليقيني الصرف الذي لا يرقى إليه الشك بحجة البحث المتواصل عن الذات التي تدور في هذا السديم المعرفي القار الذي لم يتعيّن بعد. وإذا كان الأمر كذلك فإن الأحرى بها أن تنقطع إلى الشأن السينمائي في هذا الكتاب تحديداً، وتفكّ اشتباكه اللامبرَّر مع الأنواع النقدية الأخرى التي أشرنا إليها قبل قليل. وطالما أن “أمل” معنية بالنقد السينمائي وكتابة السيناريو على وجه الدقة فأنا أعتقد بأن هذا الكتاب كان يجب أن يقتصر على المقالات السينمائية فقط، ولا يتعداها إلى المقالات النقدية التي كتبتها عن المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وما إلى ذلك، خصوصاً وأنَّ مقالاتها النقدية عن روايات شريف حتاتة كان يمكن لها أن تكون نواة لكتاب نقدي منفرد عن الفن الروائي لهذا الكاتب الذي هُمِّش ولم يأخذ حقه من النقد والدراسة والتحليل. وعلى وفق هذا التأويل سأتوقف عند المقالات السينمائية المهمة التي كتبتها أمل الجمل لتفصح عن أشياء كثيرة من بينها أنَّ ذائقتها النقدية عالية ومرهفة من جهة، كما أنَّ أدواتها النقدية متطورة وقادرة على الخوض في الأفلام التي وضعتها على منضدة التشريح النقدي من جهة أخرى.

لابد من الإقرار بأن “أمل” قد اختارت أفلاماً أجنبية وعربية مهمة جداً كي تكون مادة لباكورة كتبها النقدية، كما أن موضوعات هذه الأفلام منتقاة بعناية فائقة وهي في غالبيتها تراجيدية أو ذات نفَس مأساوي واضح مثل “البحر في داخلنا” لأليخاندرو أمينابار الذي يتمحور حول الشلل الرباعي، ويناقش فكرة الموت الرحيم “Euthanasia” وحق المريض في إنهاء حياته، و “باب الشمسس” ليسري نصرالله الذي يتعاطى في جانب منه مع “غيبوبة” يونس، الذي يُبقيه ابنه بالتبنّي الدكتور خليل على قيد الحياة بواسطة سرد الحكايات، ومنها حكايته مع شمس التي تخونه مع سالم، ثم تقتلُ “سالماً” لأنه غدر بها. و “النمر والجليد” لروبرتو بنيني الذي يدور حول فيتوريا التي تُصاب بصدمة دماغية وتصبح في عداد الموتى إكلينيكياً. وفي السياق ذاته ركزّت الناقدة أمل الجمل على أفلام مهمة تتمحور حول الحروب والكوارث والمحن البشرية مثل “باب الشمس” ليسري نصرالله الذي يتناول قضية المصير المشترك للشعب الفلسطيني المحتل، أو “أمٌ لي” للفنلندي كلاوس هاره الذي يدور في جانب منه على الحرب العالمية الأولى التي فُقد فيها والد إيرو فأرسلته أمه إلى السويد لحمايته ضمن أكثر من “70” ألف طفل أُطلق عليهم اسم “أطفال الحرب”، وفلم “غير صالح للعرض” لعدي رشيد الذي يعّج بالموت والدمار والرؤية المشوّشة، و “غير خدوني” لتامر السعيد الذي يرصد بشاعة التعذيب الذي تعرّض له خمسة أصدقاء مغاربة بسبب انتمائهم للحركة اليسارية “إلى أمام” حيث أمضوا تسع سنوات من أعمارهم الفتية أنستهم ملامح أمهاتهم، و “26 ثانية في الباكستان” لإبراهيم البطوط الذي رصد آثار الزلزال المدمر الذي ضرب الباكستان لمدة “26” ثانية، لكنه خلّف “100” ألف قتيل، وأكثر من هذا العدد جرحى ومصابين ومنتكسين نفسياً، ونحو ثلاثة ملايين مشرّد، كما يحضر الموت أو القتل العمد أو الولوج إلى السجن في عدد آخر من الأفلام التي كتبت عنها الناقدة الجمل، خصوصاً وأنّ بعضاً من هذه الدراسات تتناول أكثر من فلم كما هو الحال مع تامر السعيد، أو إبراهيم البطوط، ونور الشريف، والدراسة المكرّسة عن السينما الروسية التي حللت فيها الناقدة أمل الجمل ستة أفلام غالبيتها مهمة ضمن خارطة المشهد السينمائي الروسي المعاصر.
تبرز أهمية الرؤية النقدية لأمل الجمل في رصدها للثيمات الإشكالية والأفكار الفلسفية التي تتعمّق فيها تارة، وتتوسّع فيها تارة أخرى حتى لتُشعِر القارئ بأنه أمام دراسة نقدية سينمائية تفوح منها رائحة الفلسفة أو التحليل العميق الذي قد يفضي بالمتلقي إلى برازخ فكرية وثقافية واجتماعية ونفسية رصينة، بل أنها تذهب أبعد من ذلك حينما تناقش بشجاعة نادرة الجانب الإيروسي، والمتعة الحسيّة، وحق المرأة في التعددية، ومناقشة موضوعات حساسة مثل الختان الجسدي والفكري وما إلى ذلك كما في فلم “دنيا” لجوسلين صعب، و “عن الشعور بالبردوة” لهالة لطفي وحتى “زنا المحارم” كما في فلم “فرحان ملازم آدم” لعمر عبد العزيز. هذه الثيمات وغيرها من القضايا الإشكالية هي التي حدّدت الرؤية النقدية لأمل الجمل وجعلتها، في الأقل، اسماً مهماً في المشهد النقدي السينمائي العربي.
لا شك في أن أي فلم يتكوّن من مفاصل عديدة معروفة، لكن تركيز الناقدة أمل الجمل قد انصب على السيناريو في عدد غير قليل من الدراسات النقدية، وسبب هذا التركيز متأتٍ من أن أمل الجمل قد شاركت في العديد من الدورات وورشات العمل التي تتعلق بكتابة السيناريو على وجه التحديد، ويبدو أنها تزوّدت بالكثير من الخبرات المعرفية في هذا المضمار، كما أنها كتبت عدداً من سيناريوهات الأفلام التي أهّلتها لمعرفة أسرار وخفايا هذا النوع من الكتابة “الأدبية” التي يجب أن يطغى فيها الجانب البصري على الجانب الأدبي، فلاغرابة أن تتركز الآراء النقدية لأمل الجمل على سيناريوهات غالبية الأفلام التي حلّلتها ودرستها نقدياً، ويمكن أن نؤكد صحة ما نذهب إليه في حديثها عن فلم “باب الشمس” حيث قالت: “السيناريو شابَهُ استطراد بصري وفكري، وأصابه ارتباك شديد في الجزء الثاني، الذي لم يُحسن فيه توظيف الفلاش باك، وفشل كُتّاب السيناريو في إيجاد حيلة درامية يتفادون بها التكرار فوقعوا في فخ التطويل”ص24، علماً بأن ثلاثة أسماء مهمة كتبت هذا السيناريو وهم يسري نصرالله وإلياس خوري ومحمد سويد! تعتقد أمل الجمل أن ضعف فلم “دنيا” سببه السيناريو أيضاً، وتضيف إليه “التعثّر في السرد، والإخفاق في المعالجة الدرامية”، كما تكرر مسألة الارتباك الفكري من دون أن توضِّحه، وأغلب الظن أنها تعني التناقضات الفكرية التي ينطوي عليها الفلم. تُثني أمل الجمل على سيناريو “أمٌ لي” لكلاوس هاره لأن “السيناريو متماسك”، لكنها لا تنسى أهمية اللمسة الإخراجية التي صنعت من هذا الفلم “تُحفة فنية”، كما تلفت النظر إلى “دور الإضاءة وتطابقها مع الأوضاع النفسية للشخصيات”، هذا إضافة إلى الأسئلة العديدة التي تثيرها الناقدة أمل عن “الوطن، وماهيته، وهل نولد فيه أم يولد في داخلنا”؟ تتوقف “أمل” عند فلم “أخوة” لسوزانا بِير لتؤكد لنا “أن السيناريو محسوب ومُتقَن” من دون أن تغفل الأداء الممتاز للطفلتين تحديداً، هذا إضافة إلى أن الفلم يتمحور أيضاً حول السجن، والأسْر، والاحساس بالذنْب، وتأنيب الضمير وما إلى ذلك.
إذا كان بونويل يقول: “لا يخلو فلم في العالم من خمس دقائق جيدة في الأقل” فإن أمل الجمل تدعونا بحسِّها النقدي المرهف إلى تأمل الدقائق العشر الأخيرة من فلم “العصفور” ليوسف شاهين الذي أزال النقاب عن الهزيمة الداخلية حينما فتح ملفات الفساد المتعلقة برجال الأعمال، والمسؤولين الكبار في الدولة، مشيراً إلى نكستنا الحضارية من دون أن يتحدث عن أسباب الهزيمة العسكرية. كانت هذه “التنويعات على اللحن الشاهيني” محاولة جدية من شاهين لإثبات ذاته، ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى الصرخة المهمة التي أطلقها شاهين في مهرجان قرطاج عام 1970 حينما قال: “أخرجوا من رأسي جميعاً، سوف أعبِّر عمّا أريد بالطريقة التي أريد”ص73.

                                      الكاتبة

على الرغم من أنني لم أغطِّ كل المحاور التي يشتمل عليها متن هذا الكتاب النقدي القيِّم إلاّ أنني أجد نفسي مضطراً للتوقف عند المقال الذي خصّت به نور الشريف وحياته الفنية والثقافية، فقد أغدقت عليه الكثير من الأوصاف التي يستحقها، فهو فعلاً مثقف، ومتواضع، ومكتنز بالمعلومات الموسوعية المتنوعة التي تؤهله للحديث في الفن والثقافة والدين والسياسة وعلم النفس وما إلى ذلك. ذكرت أمل الجمل بأن فلم “مع سبق الإصرار” هو بداية نور الشريف الفنية الحقيقية لأنه كسر الصورة النمطية للممثل ذي الشعر الصقيل، والملابس الأنيقة، كما أشارت إلى قدرته الفذّة في التمثيل بلغة العيون كما في “حدّوتة مصرية” و “شوارع من نار”، وذكرت في السياق ذاته عدداً من الأفلام المهمة التي مثّل فيها وأعتبرها النقاد علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية مثل “زوجتي والكلب”، “الكرنك”، “سواق الأتوبيس”، “المصير” وغيرها. بقي أن أشير إلى الالتفاتة المهمة لأمل الجمل حينما تحدثت في متن هذا المقال الـ “Aura” أو الحضور الكاريزمي الذي “يشبه الهالة التي تتكون منذ الطفولة، وتتطور مع الخبرة والتعليم”، ولأن نور الشريف قارئ نهم يتفاعل مع المادة المقروءة، ويندمج بها، ويتوفر على “الهالة المُمغنطة” التي أشرنا إليها وهي مقتبسة عن أطروحة “المسار الإبداعي للممثل السينمائي” لمحمد لطفي، وأفضل منْ يجيد التمثيل بعينية ضمن قائمة المملثين المصريين في الأقل، فقد استحق أوصافاً إبداعية كثيرة لعل أبرزها حبه السينما وانقطاعه إليها، وإخلاصه لها طوال مشواره الفني الذي أنجز فيه نحو “180” فلماً سينمائياً حتى الوقت الحاضر، ونأمل أن تكون السنوات القادمة حُبلى بأفلام جديدة يتوج نور الشريف بطولتها وعمقها الفني اللصيق بهذه الشخصية الكارزماتية. وفي الختام لابد من القول بأن أمل الجمل هي ناقدة سينمائية بامتياز، لكن هذا العنوان العريض لا يمنعها من مزاولة النقد الأدبي الذي تمتلك عدته النقدية، وتطورها يوماً بعد آخر، ولعل دراساتها القيمة عن الروائي شريف حتاتة، ونوال السعداوي، والشاعر الراحل حلمي سالم هي خير دليل على ما نذهب إليه.


إعلان