أفلام البحث عن هويّات في عصر الأنقاض

 
محمد رُضا

تذكر مهرجان جيلافا (جمهورية تشيك) السينمائي المتخصص بالأفلام التسجيلية والذي كانت أعماله إنتهت مع نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر،  المخرج السوري عمر أميرالاي وخصّ عروضه بثلاثة أفلام من أعماله هي «الدجاج» و«سد الفرات» و«صحن سردين». بادرة جيّدة لكنها لم تكن كافية إذ لا تشكّـل البانوراما الكافية لعرض أعمال مخرج ناهض الوضع السائد وتحمّـل من جراء ذلك الكثير من التبعات من بينها حرمانه من السفر تارة ومن العمل تارّة أخرى والتهديد الدائم بأن يجد نفسه ذات يوم في مصير يشبه مصير الإيراني جعفر باناهي.
عرض المهرجان نفسه عدداً كبيراً من الأفلام. هو، بحسب مراجعات، واحد من أكبر لقاءات السينما التسجيلية في أوروبا، رغم ذلك ليس على القدر ذاته من الشهرة التي لمهرجانات أوروبية أخرى متخصصة بالسينما التسجيلية مثل لايبزغ وميونخ وأوبرهاوزن ومانهايم.
وإذا ما كانت هناك صفة غالبة لهذا المهرجان وعروضه هذا العام، فهي- وربما بطبيعة الحال- صفة سياسية. ذلك أن العالم، منذ أن تم استبدال الثقافة بالسياسة كشاغل حضاري، يعيش حالات متماوجة من الممكن والمستحيل باحثاً عن حلول لمشاكل لم تكن مطروحة من قبل. يجمع بين هذه المشاكل، أو كثير منها على الأقل، البحث عن الهوية.
الكندي مايك هولبوم يلقي نظرة ذات أصول دينية على فلسطين كونها، بحسب الفيلم (والحقيقة) محط ديانتين متتابعتين هما اليهودية والمسيحية. لكن الفيلم يخلص من هذه الأصول لطرح ما هو بحث في المرجعيات اللاحقة لتلك الدينية، فيحيط بما تم لهوليوود تصويره من أفلام تعكس نظرتها المحافظة حيال فلسطين وما ورد في مخيلة المؤلفين. وكل ذلك، يتبدّى للمشاهد في هذا الفيلم الحاوي على مشاهد ملتقطة خصيصاً له وأخرى وثائقية، دفع لخلاصة البحث عن الهوية الفلسطينية التي يحدّها، جغرافياً، جدار عازل ووضع استبدادي من قِـبل المؤسسة الإسرائيلية. الفيلم لا يذهب إلى حيث يراد له الذهاب. سوف لن يدافع عن الحق المسلوب وكل ما نعرفه من أمور وقضايا، لكنها سيغزل من نسيج التاريخ وصولاً إلى محاولة تعريف الحاضر.

                                       لقطة من “القلعة”

قلعة منسية
الهوية أيضاً هي مسألة بالغة الأهمية في فيلم آخر بعنوان «القلعة».
بعد إنهيار “الإتحاد السوفييتي” عامت على الوجه تلك الدويلات الصغيرة التي لم يكن لها الكثير من الحضور قبل ذلك. قوميات أوروبية صغيرة وجدت نفسها تطفو على سطح الماء تعيش حالات من الهدوء النسبي من ناحية والتماوجات السياسية من ناحية أخرى. واحدة من هذه الدويلات هي “بردنستروفيا”.
«القلعة» للمخرجين كلارا تاسوفشكا ولوكاس كوكيس، يهدف للبحث في هوية مقاطعة والتبدّلات التي وقعت فيها مطلع هذا العام إثر نجاح سياسي جديد بالوصول إلى سدّة الرئاسة عوض إيغور سميرنوف الذي حكم البلاد لعشرين سنة. سميرنوف خلال سنوات حكمه حافظ على علاقة مثالية من الحكومة الروسية التي حمت “إستقلالية” بردنستروفيا بوجود عسكري، ولو غير ملحوظ في الفيلم، بعدما رغبت مقاطعة مالدوفيا في ضمّها إليها. لكن في حين أن سميرنوف قرر أن أي تغيير مرفوض لأنه وفّر حتى الآن إستقراراً سياسياً ناجحاً، بنى الرئيس الجديد شيفشوك حملته على أن التغيير مطلوب لتقدم الشعب البرودنستروفي.
في ساعة وعشر دقائق تبدأ في قطار متوجّـه إلى قلب المقاطعة وتنتهي بلقطة لمدينة يخيّم عليها عتمة ما بعد الغروب، يحاول المخرجان استمزاج آراء المواطنين أنفسهم ودخول مكاتب بعض السياسيين وتصوير الرئيس سميرنوف خلال حملته الإنتخابية. لا شيء جميلاً في “دولة داخل دولة” كما يصف أحد المتحدثين وضع تلك المقاطعة، لكن أيضاً لا شيء جميلاً في تلك الفترة الشتوية من الفصول. الكاميرا تصوّر مدينة غارقة في اللون الرمادي. حدائق من أشجار الخريف. مداخن صناعية متوالية. حتى الشاطيء الذي يترامي عليه طالبي الراحة في يوم مشمس يبدو من عليه من البشر كما لو كانوا قمامات موزّعة على رقعة أرض بفضل كاميرا فوقية بعيدة وحس متأت من اللابهجة.
نبرة الفيلم تختلف من معالجة جمالية (جمال الدكانة ذاك) إلى واحدة من تلك التي تريد استخلاص الموضوع من خلال المقابلات داخل البيوت أو خارجها. الكثير من المشاهد عبارة عن تصوير ما هو معروض على التلفزيون من خطب وحملات إنتخابية. بذلك يختلف الفيلم من مطلعه الذي يحمل بحثاً ذاتياً إلى ما بعد منتصفه عندما يتحوّل إلى مجرد عمل يُراد به تسجيل حالة على نحو تسجيلي خالص.
الفيلم تشيكلي (ويتحدّث الروسية التي يجيدها أهل المقاطعة) وهناك أفلام أخرى تشيكية عرضت في هذه الدورة من المهرجان وبعضها يبحث أيضاً في موضوع الهوية. خذ مثلاً «الصوت الغجري» للمخرج ياروسلاف فوجتك.
أيضاً في ساعة وعشر دقائق لكن تصويره تم في دولة أخرى من الدول والمقاطعات القومية التي أنجبها وضع ما بعد الإنهيار الأوروبي الشرقي وهي سلوفاكيا. المحور هنا هم الغجر الذي يعيشون في المنطقة من أجيال كثيرة. يعلن الفيلم عن اختلاف كبير بين الإحصاءات الرسمية لعدد الغجر المقيمين في سلوفاكيا وبين عددهم الفعلي. السلطات تقول أنهم 1?.?7 بالمئة، لكن عددهم حسب إحصاءات مستقلة تقربهم من العشرة بالمئة.

هويات أخرى
مثل «قلعة» هناك حديث عن إنتخابات فعلية جرت ولو أن ما يشغل بال الفيلم ليس من فاز بها أو لم يفز، بل العلاقة الغجرية بها. ففي العام 2009 أقدم غجري أسمه فلادو سندري على ترشيح نفسه لإنتخابات البرلمان. بطبيعة الحال لم ينجز الطموح لتحقيق الغايات التي حملها إلى المصوّتين وفي مجملها أن يكون للغجر حضور سياسي يدافع عن حقوقهم المهدورة وأحوالهم وما يواجهونه كجزء من الشعب من عنصرية او إهمال. لكن الرجل، وقد مرّت ثلاثة أعوام على فشله يكشف اليوم عن حوافزه ويعتبر أن بعض ما منعه من تحقيق الفوز في تلك الإنتخابات أن وضعه الإجتماعي والعائلي أصعب من أن يمكّنه من النجاح في مثل ذلك الخيار.

                                الصوت الغجري

للفيلم لكنته الساخرة التي لا تخون واقعية وأهمية الموضوع الذي يبحثه.
كل من الأفلام السابقة، بما فيها أفلام عمر أميرالاي هي ممارسات فعلية في فن الفيلم التسجيلي. لكن المرء يحتار كيف يفسّر حال فيلم يحمل الجنسية الروسية ويتحدّث عن يهودي وعائلته وحياتهما الجديدة بعد هجرتهما إلى إسرائيل. طبعاً هو تسجيل (يسمّـيـه المخرج “مفكّرة مصوّرة”) لكنه ينتمي إلى ذلك النوع من الأفلام المتكاثرة من حولنا الناتجة عن حمل الكاميرا وتصوير كل شيء أمامها ثم تأليف عمل ما.
في هذا الفيلم، وعنوانه «عندما تقع رأس السنة الجديدة في يوم سبت»  هناك أيضاً بحث عن الهوية ولو أن الحديث فيها ينتهي في الدقائق الخمس الأولى. صانعه نيكيتا بافلوف يصوّر حضوره الفعلي في أرض يقول أنه وصل إليها لأنه يحب الترحال وأراد تغيير البلد الذي يعيش فيها. يؤكد في مشهد لاحقا “رغبت في تجربة العيش في بلد آخر”. هذا البلد قيض له أن يكون الكيان القائم فوق فلسطين عوض أن يكون فرنسا او هولندا أو ألمانيا ولسبب رئيسي: تسهيلات الحياة الممنوحة أمام اليهود الذين يبغون العيش في إسرائيل لا تحد. ثم هناك بالطبع الحاجة إلى العودة إلى أصول دينية والعيش في مجتمع يراه المخرج، وكثيرون سواه، نموذجياً فإسرائيل بلد قائم على العنصر والقانون المتأصّـل دينياً وتوراتياً قبل أن يكون مجتمعاً مدنياً.
يسمح المخرج لنفسه باستعراض الحال السياسي والإجتماعي الذي يعيشه، لكن لا شيء في الفيلم مبرمج على أساس منهج من أي نوع: لا فني ولا سردي ولا كطرح قضايا ومسائل. إنه حالة فوضوية لا ينفع معها علاج الا بمحاولة إنقاذ بمونتاج جديد وقبل ذلك برؤية أكثر صدقاً مع النفس.


إعلان