وثائقي هنغاري يراجع تاريخ سياسي وشخصي
“أمريكتي”.. خيبة الأمل
قيس قاسم ـ السويد
يبدو اختيار الهنغاري بيتر هيغدوس “اللعب” وسيلة لسرد تفاصيل علاقته بأمريكا واضحا منذ المشهد الأول حين يظهر هو، نفسه، جالساً قبالة محلل نفساني يسأله عن عقدته الأمريكية ومتى بدأت أولى أعراضها وكيف تجلى هوسه بها وعن الظروف التي أحاطت بطفولته ونشأته، ثم متى بدأت حالة “الانسحاب” العكسي لتزيد من قلقه الذي دفعه لزيارة عيادته خوفاً مما هو أكبر: خوفاً من كره أمريكا التي أحبها بصدق، وكانت أجمل أحلام طفولته، لكنها وفي سنوات نضجه بدأت تتراجع وتقبح، لم تعد كما هي، بسبب من سلوكها ومواقفها. ما عادت تلك التي كانت تسكن رأسه. لم يعد أبطال سينمتها الخيرون، الذين طالما حلم أن يكون مثلهم، ينقذون العالم من الأشرار، كما هم دوماً على الشاشة، لقد صاروا هم الأشرار في الواقع وأمريكا، وهذا ما لا يريد تصديقة، هي اليوم واحدة من مصادر الشر في العالم وعذابه النفسي متأتي من هنا من حالة انقسام طفل أحب طويلا أمريكا واليوم يكرهها. هو الآن موزع بين منطقتين، كما قال لطبيبه النفسي ولا يدري أيهما يصدق؟
تنوع الخامات
بلعبة السؤال والجواب بين الطبيب ومريضه تأسست بنية درامية عوضت شحة المادة الوثائقية فيه، وقادته للبحث عن مصادر أخرى تغني فكرته وتدعم “إجاباته” وخاصة تلك المرتبطة بإسئلة الطفولة. استعان بالرسوم وتحريكها وبمقاطع من أفلام أمريكية وأخرى تلفزيونية أغلبيتها من الأرشيف الهنغاري وأكملها بتصوير جديد لمناطق متفرقة من العالم زارها ليسأل بعض سكانها عن موقفهم من أمريكا. كل هذا في شريط وثائقي فكرته أقرب الى الموقف النظري المجرد منه الى موضوع مجسد من “لحم ودم” كما يقال. فالموقف من أمريكا المعاصرة واسع وتنقسم البشرية حوله لكنه عند الهنغاري هيغدوس أبعد من هذا؛ هو مادة سينمية يسجل فوقها موقفه كفنان يتأثر ما يدور حوله وأيضا حريص على تسجيل الحقيقة من منظور ذاتي بحت، ولهذا أصر على نقل ما عاشه في طفولته وأحسه. أراد أن يعطي فيلمه بعداً شخصانياً وعنوانه يكرس هذة الرؤية: “أمريكتي”. انه عن أمريكته وليس عن أمريكة العالم، على الأقل في نصفه الغائر في تجاويف ذاكرة طفولته. فيلمه موزع مثله بين الذاتي والعام. بين أمريكا الطفولة والوعي. بين قوة التأثير الخارجية وبين الواقع المعاش، غناه جاء من هنا من سعة احاطته بعوالم واسعة تفسر الموقف من الظاهرة “التاريخية”: أمريكا بوصفها إمبراطورية معاصرة والطفل الهنغاري عاش زمنها وسجل موقفاً نقدياً منها ولم يتخلى عنها بفضاضة أو عصبية فهو مازال يناديها: “أمريكتي”.

المرحلة البودابستية
لن يتخلى الطفل عن حلمه “الأمريكي” بسهولة فهو جزء من تكوينه النفسي ولكنه، وبسبب اصرار طبيبه النفسي، استجاب لدعوته للتفكير في مكونات حلمه والبحث عن سر قوته في روحه.
في عودته الى سنوات طفولته في هنغاريا يمسح بدهاء تاريخ بلاده خلال مرحلة الشيوعية وكيف ساهمت سياسة الحزب منذ قمع حركة 1956 التصحيحية في فرض رقابة مشددة على حركة الأفراد ونشاطهم، قلت بسببها مساحة الحرية الشخصية الى أقصى الدرجات، فكان الهروب سراً أو بالخيال الى الجهة الأخرى، هاجساً عاما عند أغلبية الشعب الهنغاري. فالحلم بالديمقراطية كان معادله المشاع “الحلم بالذهاب الى الغرب وأمريكا أشد رموزه قوة”. لم يدرك الطفل هيغدوس أن ولعه بالسينما الأمريكية خلال السبعينات حين كان يعاني من تمزقات حادة بسبب من انفصال والديه، وهو في سن السابعة، وسفر والده الى الولايات المتحدة وعزلته المدرسية وخجله الشديد سيقوده الى بناء مملكة وهمية موازية لما يعانيه في الواقع. مملكة مشيدة تحت تأثير السينما اسمها:أمريكا. فهروبه من واقع مدرسي كريه وبيت لا أب فيه سيدفعه بقوة للذهاب الى السينما ليشاهد عالماً مختلفاً، أبطاله يُخَلّصون العالم من شروره ويَبنون بدلاً عنه مدناً فاضلة. لقد أحب حد الهوس ممثلين صاروا قدوته وحلمه المشتهى: رولاند ريغان وسيلفستر ستالون وأرلوند شفارزنيغر. وفي زيارته القليلة لهم كان يجلب له والده كل شيء جميل من أمريكا: الألعاب والحلوى وغيرها فصار اسمها مقروناً عنده بكل ما هو حلو وطيب عكس الشيوعية فهي فكرة بغيضة وأبطالها جبناء يتغلب عليهم دوماً أبطاله في أفلامهم الجميلة!. مدهشة مراجعات الطفولة في المرحلة البودابستية وقوة استخدام “اللعب” السردي فيها اسلوبا للنقد الجاد. فالصور المتحركة السريعة والتعليقات الساخرة كانت كافية لمعرفة موقف صاحب “أمريكتي” من المرحلة الشيوعية ومن الصراع الإجتماعي الذي كان محتدماً تحت السطح، حتى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، لتظهر فوقه قوى سياسية جديدة فتحت حدود البلاد ومنحت مساحة كبيرة للحرية الشخصية سرعان ما استغلتها والدته وقررت الهجرة معه الى أمريكا ولكن لأسباب لها علاقة بالهجرة وتعقيداتها هبطوا في أستراليا بدلاً عنها.
العالم البعيد..
إذا كانت الطفولة تُفسر الهوس بأمريكا فسنوات النضج تبدده، وزيارته المتكررة لوالده في أمريكا دفعته للتفكير في طرح الاسئلة مباشرة على قياديها فليس من المعقول أن تكون كل الصورة مؤسسة في الأصل على باطل ووهمي!. لابد أن يكون هناك خللاً ما قد أدى الى انحراف أمريكا عن خطها. لابد من معرفة ما الذي حدث في بلد الأحلام وأبطاله العظام. لم تصل رسائله الى الرئيس أوباما وبدلها التقى ساسة مؤثرين فيها جلهم من أصول هنغارية كانت أجوبتهم معقولة لكنها لا تكفي للإجابة عن أسئلة مثل سبب كذب أمريكا على العالم وخلقها مبررات واهية للهجوم على العراق واحتلاله؟ ولماذا دخلوا افغانستان بحجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولماذا تسهم في سياسات اقتصادية تزيد فقر العالم في حين كانوا أبطال سينمتهم يفعلون العكس تماماً. كانوا مع الضعفاء لا ضدهم وكانوا مع الحق لا عليه فماذا حدث فيها؟
ولأنه مهووس بها لم يكتف بطرح الأسئلة على من نجح وحقق حله فيها بما فيهم والده، بل ذهب الى ساحات عاصمتها وركب كابينة صغيرة من صنعه أجلس داخلها من كان يريد أن يوصل رسالة الى قادتها أو يبدي رأياً بسياستها، ولم يكتف بهذا فعزم على الذهاب الى أماكن أخرى من العالم لمعرفة رأي المتضررين من سياساتها الخارجية أو المتصادمين معها وكم كانت دهشته عظيمة في ايران حين تعرف على قوى المعارضة فيها وفهم كيف تسهم السياسة الأمريكية الخاطئة في اضعاف موقفهم ودورهم وأدرك حجم نفاقها مع صدام حسين الذي دعموه في حربه مع جارته ايران ووقفوا ضده لتحقيق مآربهم في اسقاطه بعد سنوات. وفي موطن والد أوباما الأصلي في كينيا ناشد الناس هناك حفيدهم لمساعدتهم في أزمتهم المالية والتخفيف من فقرهم وطالبوه الكف عن تزويد المتحاربين فيها بالسلاح.

تفاجأ هيغدوس بما سمعه عن ألسنة الناس، المفترض وفق ما يصورونهم في داخلها بأنهم خصوم أمريكا، فأغلب المتحدثين في غرفة تصويره الصغيرة كانوا يناشدون أمريكا الرحمة والعطف دون كراهية أو أحقاد ضامرة. فأي كاذبة تلك البلاد التي كنت أحلم بها وأي خدعة كانت! هكذا كنا نسمع صوته يقول لنا! فحتى جنودها العائدين من العراق وأفغانستان كانوا محبطين يملأهم شعور بالمرارة من تجربة حروب خاضوها لا معنى لها عندهم ولا عند من صوروا لهم انهم يريدونها ويقدمون الشكر والإمتنان لأمريكا لأنها خلصتهم من ديكتاتورياتها.
بعد طول جولات وبحث عن جواب يشفي عقدته النفسية، قرر مخرج “أمريكتي” ارسال التسجيلات والمناشدات الى البيت الأبيض فلا رجاء في مقابلة مباشرة مع الرئيس، وحتى لو حدثت، فقد توصل الى قناعة بأن الأمر أكبر منه ومن حلمه. انها في النهاية سياسة امبراطورية لا يهمها سوى تحقيق عظمتها. ولواقعية فرضتها التجربة الحياتية والسينمائية قرر الاهتمام بشكل أكبر بطفله، ليرعاه ويغذيه بأفكار انسانية حقيقية، حتى لا يتكرر عنده ذات الحلم الوهمي بأمريكا عادلة، فيكفي انه أصيب بخيبة أمل شديدة منها ولا حاجة لغيره أن يصاب بها.