صاروخان: الأرمينى الذى أسس فن الكاريكاتير العربى
وثائقي يروي حياة ألكسندر صاروخان الصعبة وخمسين سنة من الإبداع
صفاء الليثى – القاهرة

“صاروخان” فيلم عن الفنان ألكسندر صاروخان رائد فن الكاريكاتير فى مصر، يتضمن نبذة عن حياته وفنه ورسوماته على امتداد 24 دقيقة. إذ يقدم المخرج الشاب معتز راغب فيلمه. إذن هناك إدراك لديه أن ما قدمه هو فقط نبذة عن حياة الفنان الذى يمثل مشوار حياته دراما تكاد تكون كونية عن واحد من مبدعى الأرمن، هذا الشعب الذى عانى كثيرا وشتته الحربان العالمية الأولى والثانية بدرجة لا تقل مأساوية عن شتات اليهود، ومع ذلك لا نجدهم يتاجرون بمآسيهم ولا يتغولون على حقوق شعب آخر تعويضا عما ذاقوه. بل نجد الواحد منهم يندمج فى حياة البلد الذى استقر به، يساهم بفنه فى خدمته، يتعلم منه أبناء هذا البلد، وفى النهاية تبقى غصة فى حلق من تبقى من أهله لأنه لم يكرم التكريم الذى استحقه. وهذا ما ينتهى إليه فيلم معتز راغب بلقاء مع زوج ابنته – سيتا صاروخان- يقدم فيه عرضا لوزارة الثقافة المصرية لكى تقيم معرضا لرسوماته التى تصل إلى 40 ألف لوحة متنوعة عن السياسة والحياة في مصر والعالم.
يبدأ المخرج وهو نفسه مؤلف الفيلم بمولد صاروخان فى بلدة أرمينية تسمى قرية أردانوش في القوقاز وتلقى تعليمه في مدينة باطوم ثم انتقل إلى اسطنبول وانتسب إلى معهد المختارين الليليين عام1915 ، نسمع فقط دقتان للموسيقى على سواد ثم يدخل التعليق على صور ثابتة يحرك المخرج الكاميرا عليها فيخلق حركة هادئة من ثبات الصور والرسومات وقليل من الوثائق المتحركة. الصور تقطع فى المونتاج على مقاس جمل التعليق المكتوب برصانة قلما تجدها فى الأفلام التى يقدمها مبدعون شباب. الفيلم كله أقرب لأسلوب كبار السينمائيين الراسخين والذين أسسوا لمدرسة الفيلم الوثائقى التقليدية عبد القادر التلمسانى، وصلاح التهامى فى الخمسينيات والستينيات. والتى تتميز بوفرة المعلومات وتلاحق الصور مع التعليق وبقدر قليل مع الموسيقى التى تكاد تترجم محتوى الصورة.
ما الذى يدفع فنانا شابا لتجاهل ما وصل إليه الفيلم التسجيلى منذ السبعينيات وحتى الآن، هذا التطور الذى بعد به عن التعليق من خارج الصورة واعتمد على لقاء الشخصيات وحديثها بلغتها الدارجة، أو لنقل بعامية المثقفين. قد يكون أحد الأسباب الهامة أن الشخصية التى يتناولها الفيلم قد رحلت عن عالمنا منذ حوالى ربع قرن، وبقيت فقط الأعمال الرائعة التى يمكن عن طريقها تتبع تاريخ مصر والعالم عبر الشخصيات التى كان يرسمها بتميز الفنان الراحل ألكسندر صاروخان.
تقليدية أسلوب الفيلم لا تمنع المتعة بمشاهدة نماذج متنوعة من رسومات صاروخان البديعة، خاصة رسمه للوجوه وإظهاره الصفات الداخلية بها. نتعرف على شخصية المصرى أفندى التى أبدعها وغالبا يربطها بشخصية سياسية مثل تشرشل أو يربطها برسم شخصى له، يشرح لنا الفيلم لصاروخان والمصرى أفندى فى المنتصف وعلى يمينهما ويسارهما زعماء العالم فى فترة الخمسينيات. طفلة بضفائر تؤدى على المسرح وامامها جمع غفير من المشاهدين، ساحة مزدحمة تبدو كساحة حرب بها الرموز السياسية فى حالة صراع ، يسمى اللوحة السيرك السياسى، تتنوع الرسومات بين الخط باللون الأسود على بياض اللوحة، أو تكون تكوينا بالألوان تزدحم به الشخصيات والحكايات ، كل لوحة لها اسم كالوليمة والسيرك السياسى، تستعرض اللوحات الأحداث وتعلق عليها من خلال الرسم فى مجلات أصبح الكاريكاتير فيها عنصرا رئيسا ومكونا أساسيا مع غيره من الأعمدة والمقالات. مجلة آخر ساعة وأخبار اليوم ومطبوعات أخرى لا يغفلها الفيلم عن كتبه التى قام بتأليفها بالرسوم ومنها كتاب هام عن الحرب باللغة الفرنسية.
بالفيلم عدد من الإسقاطات السياسية والمقارنات بين عصر ما قبل ثورة 23 يوليو والفترة الناصرية وبين عصر السادات وما يحدث الآن من حكم الإخوان. وهى مقارنات سريعة لم تأخذ وقتها من التحليل، حيث يركز المخرج على الفنان وقضيته، منذ ارتبط بالمشروع الناصرى وعبّر عن إنجازاته بكاركاتيرات غنية وحصل على الجنسية المصرية عام 1955، ليصبح جامعا بين أصوله الأرمينية وبين انتمائه للوطن الذى احتضنه وشارك فى نهضته الثقافية.
الفيلم يمتعك باستعراض كاريكاتير يختلط فيه الهزل بالجد، السياسة بالقضايا الاجتماعية، يشوقك لتبحث فى الشبكة العنكبوتية، لتجد كثيرا من التغطيات الصحفية والمقالات عن صاروخان مما يجعلنا نتأكد أن صانع الفيلم وجد مادته البحثية والمعلومات التى صاغ منها التعليق بغير مشقة، تبقى المشقة فى تجميع الرسوم والتى اعتمد فيها على الأرشيف لكل من آخر ساعة وأخبار اليوم ومقتنيات الأسرة التى بقي منها ابنة صاروخان وزوجها اللذان يحفظان تراثه ويرغبان أن تقتنيه الدولة وإلا إضطرا لبيعه لمن يحفظه خارج الوطن.

صاروخان كان مبدعا لم يسبقه أحد فى بلداننا العربية، سار على خطاه عدد من أهم فنانى الكاركاتير ويحضرنى الفنان صلاح عنانى الذى يقدم لوحات مزدحمة بالشخصيات تشبه فى فكرتها لوحات صاروخان مع الاختلاف الكبير فى أسلوب الرسم، فكلّ له لمحته الخاصة وكلاهما يقدم مسحا للثقافة والحياة السياسية المعبرة عن زمنه. هذه المقارنة لا يتضمنها الفيلم ولم يشأ المخرج الانحراف بفيلمه ليتوه فى عالم فن الكاريكاتير الزاخر بمبدعيه، بل قدم عملا شديد التركيز حول فنان أتى من بلد صغير واستقر فى مصر وأخلص لها كواحد من أهلها الأصليين.
درس معتز راغب بمعهد كولومبيا لتكنولوجيا علوم السينما بالولايات المتحدة الأمريكية، وكون خبرته لإنتاج وإخراج الفيلم التسجيلى بالعمل مع المخرج التسجيلى المصرى أحمد فؤاد درويش. عمله الأول بعنوان ” ماذا حدث فى مصر” فى 30 ق يروى فيه عددا من الشهادات حول ثورة 25 يناير 2011. كون شركته الخاصة ومنها وزع فيلمه الأول وأنتج فيلمه الثانى ” صاروخان ” بدعم من المركز القومى للسينما التابع لوزارة الثقافة المصرية وأشرف على إنتاجه المخرج مجدى أحمد على. تمثل الشركات الإنتاجية الصغيرة التى توزع وتنفذ إنتاج الأفلام الوثائقية إضافة لهذا الفن الذى يعانى من التهميش ولا يجد منفذا للعرض للجماهير ويبقى مرهونا بالمهرجانات والعروض الخاصة لجمهور مثقف لا يمل من المعرفة التى يقدمها له فيلم وثائقى كفيلم صاروخان.