” كيس الدقيق ” يتوج بجائزة السيناريو في بروكسل

  رحلة في   هجرات معاكسة

طاهر علوان

ماتزال افلام الهجرة والمهاجرين تجتذب اليها جمهورها الذي يطيب له التنقل بين العالمين المتوازيان وربما المتقاطعان اللذان يشكلان بيئتا الأنسان ، البيئة والوطن الأم والأرض البديلة التي وجد نفسه فيها راغما او راغبا ، ومابينهما ثمة كائنات متراعشة لاحول لها ولاقوة تجرفها هجرة الراشدين ، الأباء والأمهات من الذين ضيعوا انفسهم في متاهات الهجرة وخسائرها واوجاعها القاسية ، هذه الكائنات الضعيفة  هي الأكثر تعبيرا عن نتائج الهجرة ومخرجاتها اكثر من اي كائن  آخر .
ولعل مقاربة  الصورة النمطية للمهاجرين الذين لم يجدوا لأنفسهم بديلا في الوطن البديل هي مقاربة اخرى اكثر شيوعا في هذا النوع والتي تفضي غالبا الى صورة سلبية في الغالب تمثلها سلوكيات الأجيال المتعاقبة من هؤلاء المهاجرين .
هذه الخلاصة يتحرك عليها الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة البلجيكية من اصل مغربي خديجة سعيدي ليسليرالذي عرض مؤخرا في المهرجان الدولي للسينما المستقلة في بروكسل حاصدا ثلاثة جوائز هي جائزة لجنة التحكيم وجائزة احسن سيناريو وجائزة احسن ممثلة التي ذهبت الى الطفلة التي لعبت دور سارة “رانيا ملولي”.

خديجة سعيدي

ننطلق من هذه الطفلة التي قدمت نموذجا للأب المهاجر الفاشل والأناني الذي انجب طفلة ثم مالبث ان تخلى عنها ليرميها في احدى المدارس الداخلية الملحقة بأحدى الكنائس الكاثوليكية في بلجيكا ، لتنشأ الطفلة – من دون ان تدري- نشأة مسيحية لجهة التدين ونشاهدها وهي تعترف للقس اعترافات طريفة عن نفسها ولكنها ماتلبث ان تكون في مواجهة ابيها القادم اصلا من احدى القرى المغربية الذي يكذب عليها انه سيأخذها في اجازة ولكنها تفاجأ واذا بها في قاع تلك القرية النائية في مجتمع وشخصيات واجواء وحياة لاتعرف عنها شيئا لتصاب بصدمة هائلة في كيفية التعاطي مع الأب الذي خذلها وتركها عائدا الى المهجر وصدمة اخرى مع الواقع الجديد …
من  هذه الحصيلة الفاصلة في مسار الشخصية تكون هذه الطفلة الموهوبة امام امتحان عسير في استخدام انفعالاتها وردود افعالها للتعبير عن هذا التحول الكبير وهو ما اجادته الى درجة الأتقان والأبهار وكأنها ممثلة محترفة اذ عبرت عن مشاعر عميقة في علاقتها بالمكان والناس والدين وكانت سلسلة المشاهد التي شكلت ربع مساحة الفيلم تقريبا من اجمل ماصنعته هذه المخرجة ومنها مثلا المشهد المؤثر لأكتشاف والدتها المصابة بالجنون والتي تخفي وجهها وتسكن احد الأماكن المهجورة في اعالي الجبل حتى اذا انتقلنا الى الفتاة وهي مراهقة وشابة صرنا في مواجهة تحول آخر فهاهي الممثلة المبدعة ” حفصية حرزي ” في دور آخر يضاف الى روعة ادائها في طول مسيرتها  بملامحها الطفولية وقدرتها على تجسيد الشخصية هي وزميلتها في كثير من الأفلام  الممثلة المبدعة هيام عباس التي تؤدي هنا  دور العمة.
لكن المشكل يبرز في عدم قدرة السيناريو والمعالجة الفيلمية فيما بعد الى الأرتقاء بما كان عليه ذلك الجزء ، فالفتاة اليافعة سارة تجد نفسها امام استحقاقات سنها ، علاقة الحب البسيطة بجارها ، الفقر المدقع الذي تعيشه اسرة عمتها التي استضافتها ، الشكوى  والتذمر المستمر لزوج العمة من وجودة سارة ، تخلي والدها عنها وعدم ارسال اي مبلغ من المال لتغطية تكاليف معيشتها وهو مايدفعها الى حلول بسيطة وربما تبدو ساذجة احيانا كمثل حياكة قطع التريكو لبيعها وشراء اكياس من الدقيق لنجدة الأسرة وادخال الفرحة لهم وهم الذين يؤرقهم الحصول على مواد التموين مرتفعة الثمن قياسا لمداخيلهم ولغرض انقاذ مايمكن انقاذه في المسار الفيلمي يجري زج الحدث السياسي في هذه الدوامة من خلال مشاهد المظاهرات في الأزقة الضيقة ضد الدولة وما يعقبها من دخول قوات الأمن واجتياح تلك القرية النائية لأعتقال اولئك المتظاهرين.
لعل هذه المقتربات الأساسية كانت كافية لتأسيس علاقة الشخصة الجدية بالمكان ، وقد اجادت المخرجة في اختياره فهو مكان قلق لاتتمكن الشخصية من الأنتماء اليه كليا فبين الحين والآخر نكتشف اننا في منطقة جبلية وحتى اولئك الصبية تجدهم يلعبون الكرة في شبه كهف او منحدر شديد ناهيك عن المشهد المتكرر والمؤثر لزيارة سارة لوالدتها المجنونة التي تخفي وجهها وترمي كل من يزورها بالحجارة رغم ذلك النشيج الحزين لسارة وهي تخبرها  انها ابنتها ولكن من دون جدوى .

المكان الذي لاتتآلف معه الشخصية ولا تنتمي اليه يبقى فقيرا للغاية عن الوفاء بأحلام سارة ، وهي لاتستطيع ان لاان تنسجم معه ولا ان تقرأه القراءة التي تجعلها جزءا منه، الطرقات الضيقة التي غاليا ماتكون اما موحلة او مغمورة بماء المطر حيث ان اغلب المشاهد صورت شتاءا ، الدكاكين المعدودة المتلاصقة ، المنزل الضيق الذي ينام فيه الجميع متلاصقين ربما على الأرض ، المدرسة التي لاتجد فيها سارة ما يجذبها سوى تعلم حياكة قمصان الصوف ، هذه الخلاصات المهمة هي التي شكلت علاقة الفتاة مع واقعها الذي اخفقت في الأنتماء اليه .
وعلى هذا المسار وجدنا ان سارة  التي ظلت مسالمة وهي تستقبل وتمتص الهزات النفسية والوجدانية التي تلاحقها لأنها بلا ام ولا اب ولا اسرة سوى تلك العلاقة الهامشية الشاحبة مع احد شباب الحي فيما هي تراقب في المقابل الحب الناشيء لصديقتها وفيما تصدم النساء اللواتي يأتين  لخطبتها  لأبنائهن في تفضيلها فكرة التبني وما يدفع العمة الى اخذها الى مستسفى لايخلو من القذارة في تلك القرية النائية لغرض فحص العذرية وهو مايتأكد للعمة فيما بعد ان ابنة اخيها ماتزال بكرا .
الملاحظ في هذه المساحة الزمنية هو الأيقاع البطيء للأحداث بل لااحداث مهمة تقع وتصعد الدراما سوى حياة يومية رتيبة وافعال تتكرر ومع ذلك فأن المظاهرات الأحتجاجية المصحوبة بدوي انفجار ماتلبث ان تتسبب في تحول كبير لكون الضحية الذي يسقط ليس الا ذلك الطفل الصغير ابن العمة “محمد” ، هذا التحول يقطع آخر فرصة لسارة في البقاء في ذلك المكان بسبب الكارثة التي لحقت بالعمة الأنسانة الأكثر حنانا وتعاطفا مع سارة ولهذا يكون البديل هو صفقة مالية تصطحب سارة بموجبها شابا مغربيا الى بلجيكا بسبب كونها تحمل جنسية ذلك البلد لكي تؤمن له الأستقرار والعيش هناك فيما يعرف بالزواج الأسود اي الزواج الشكلي على الورق فقط في مقابل المال فيما ستعود هي الى جذورها والى عالمها الذي نشأت فيه وانقطعت عنه وذلك في مشهد مع ساعات تعود الى جذورها ، انها هجرة اخرى معاكسة ، تارة معاكسة للذات ودواقعها وحاجاتها وتارة هي رحلة بحث طويل عن بديل من الأمل والحلم .
 


إعلان