وجدة :سينما المقاومة

دبي – رامي عبد الرازق

افتتح الفيلم السعودي وجدة إخراج هيفاء المنصور عروض البرنامج العربي ضمن فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي (9-16 ديسمبر) حيث يتنافس مع 15 فيلما أخرين وذلك بعد أن شهدت دورة مهرجان فينيسا الأخيرة العرض العالمي الاول له.
استطاع مهرجان دبي هذا العام ان يقدم مجموعة من العروض المميزة خلال مسابقة المهر العربي منها عروض عالمية اولى وعروض دولية وشرق اوسطية ومحلية اولى ربما اهمها بعد وجدة عروض افلام مثل”هرج ومرج” اول افلام المخرجة المصرية الشابة نادين خان ابنة المخرج محمد خان وفيلم”مون دوج” للمخرج المصري العائد بعد غياب خيري بشارة والعرض الدولي الأول لفيلم”زيرو” للمخرج المغربي نور الدين لخماري بعد عرضه المحلي الأول ضمن فعاليات مهرجان مراكش في دورته الأخيرة, بالأَضافة إلى عرض فيلم”الشتا اللي فات”للمخرج المصري ابراهيم البطوط الذي كان ايضا ضمن الاختيارات الرسمية خارج المسابقة في مهرجان فينيسا هذا العام.

خارج القطيع
في المشهد الأول من وجدة نرى في لقطة متوسطة مجموعة من احذية فتيات المدرسة وهم يقفون في صفين متتابعين كلهم يشبهون بعضهم ثم نرى حذاء واحد رياضي مختلف وعندما تصعد الكاميرا عنه إلى اعلى نجد انه حذاء بطلتنا الصغيرة وجدة تلميذة الصف الرابع والتي لا تغني بحماس تلك الانشودة الدينية.
تطلب منها المعلمة أن تخرج من الصف وتنشد بمفردها وتخرج بالفعل لكنها لا تنشد فيتم طردها ثم يبدأ الكورال او القطيع الصغير في الغناء بقوة بعد أن تم عقاب وجدة امامهم لتضعنا هيفاء المنصور مخرجة الفيلم منذ اول مشهد في اطار التمرد والأختلاف الذي سوف يصبح علامة مميزة لشخصية الصغيرة وجدة, انها ترفض ان تكون جزء من قطيع, انها متمردة وذات شخصية مختلفة اي باختصار تغرد خارج السرب.
قوة اي سينمائي حتى في عمله الأول تظهر من خلال المشهد الأول وهيفاء في اول افلامها الطويلة وبعد خمسة سنوات من الأعداد تتمكن من ابراز هذه القوة بذلك المشهد.
وجدة ليست طفلة عادية وليست امرأة صغيرة انها نموذج للأختلاف في مجتمع يرفض ذلك ويعتبر المختلف مذنب والحر مريض او شاذ, على المستوى الأجتماعي تعيش وجدة مع امها وابيها الذي يعمل في الصحراء.
في لغة سينمائية مكثفة وسلسة نرى الأب بعد عودته بأفرول العمل الملطخ بالبقع يهدي ابنته حجر صغير من صحراء الربع الخالي اذن نعلم ما هو عمل الأب واين ولماذا لا يأتي للبيت سوى كل اسبوع مرة, الأم تعمل في مستشفى بعيدة لكن السائق الهندي يتحكم فيها بشكل غريب لماذا ؟ لانهم في بلد يحرم على النساء قيادة السيارات.

الأبواب المغلقة
استطاعت هيفاء ان تصور داخل مدينة الرياض وهو انجاز ضخم لم يحققه سينمائي قبلها وتبدو المدينة حاضرة بقوة لا في صورتها الحضارية ولكن كجزء من مجتمع قمعي يعاني من الهوس الديني.

المخرجة هيفاء المنصور

تركز المخرجة على اسوار البيوت العالية التي تسير امامها وجدة وعلى الأبواب الكثيرة التي تغلق, فالفيلم مليئ بالأبواب الحديدية المغلقة, انه الهوس بالحرمة والعورة, نرى بيت وجدة من الخارج كثيرا امام الباب الحديدي الذي يغلق باستمرار عليها وعلى امها, نرى التلميذات يدخلون إلى المدرسة حيث يعاملون من مديرة المدرسة “حصة/ الممثلة السعودية المهاجرة عهد” معاملة قاسية تمثل الجانب السلطوي, وبعد دخولهم يغلق الباب الضخم خلفهم, اينما ذهبت وجدة ثمة باب مغلق عليها او على امها او على نساء الفيلم.
الام في الفيلم الممثلة الجميلة ريم العبد لله بكل فتنتها وسحرها العربي الأصيل نراها في اغلب مشاهدها تتزين وتتجمل من اجل زوجها, رغم انها ربة اسرة وامراة عامله وفي المقابل الزوج غائب عن المنزل, مشاهده قليلة لكن حضوره الذكوري واضح في مجتمع يقدس الذكورة, تفصايله التي يعكسها جلبابه, غترته التي تكويها, حتى شجرة عائلته التي لا تحتوي سوى على الذكور فقط وعندما تضيف لها وجده اسمها تجد الورقة الملصقة منزوعة عن لوحة الشجرة وممزقة.

الدراجة/ الحلم
الجانب النفسي في شخصية وجدة يتجسد في حلمها بركوب دراجة التي تمثل جزء من المحرمات في مجتمع لا يسمح بقيادة المرأة للسيارة, ومن أجل هذا الحلم نراها تعمل بجد في صناعة اساور اليد الصغيرة بحسب اعلام نوادي الكرة, تنجزها ببراعة وتتقاضى اجرا عليها, هذا نموذج ايجابي ومختلف لطفلة تحمل روح التمرد والرغبة في الأعتماد على النفس, انها تصطحب صديقها الصغير إلى بيت الهندي كي تطلب منه أن يعود لتوصيل امها بعد ان رفض الهندي ان يوصل الأم مما هدد عملها, ولم تجروء الام على الذهاب ولم يدر الأب شيئا فهو منشغل في عمله وبحثه عن زوجة جديدة تنجب له الولد, لكن وجدة تفعلها, أنها نموذج البطل الدرامي المكتمل الأبعاد فالعقدة تنبع منها والصراع يتصاعد بناء على القرارت التي تتخذها وهو هنا صراع ضد قيم اجتماعية وافكار رجعية مما يزيده صعوبة وعسرة وفي المقابل تحقق هيفاء في السيناريو ما يعرف دراميا بوحدة الأضداد اي ان الخصوم الذين امامها لا ينالهم تعب من الصراع ضد رغبتها والخصوم هنا يتجسدون في كل مديرة المدرسة رمز السلطة الفوقية والتشبث الأعمى بظاهر الدين.
في مشهد بليغ عندما تقرر وجدة أن تشتري دراجة كي تسابق صديقها في محاولة منها لأثبات أنها لا تقل عنه في شئ-انتصار انثوي على طغيان الذكورة الزائف- تقدم لنا هيفاء الدراج 

طائرة في الهواء في مشهد واقعي ذو دلالة سحرية وشعرية في نفس الوقت, انها تصور الدراجة المحمولة من فوق عربة نقل ولكن من زاوية نظر وجدة الواقفة خلف سور عال لتصبح الدراجة وكأنها تطير بالفعل في الهواء فتتطابق دلالة الحلم مع حقيقية النظرة  دون خروج عن اطار الواقعية التي تتخذه المخرجه نوعا وشكلا لتجربتها.
تذهب وجدة كي تحجز الدراجة لتواجه بالطبع بالأجابة المعهودة لا يوجد فتيات يركبن دراجات, وتبدو في قمة عنادها كبطلة درامية وهي ترفض هذه الأجابة, سوف اشتري الدراجة هكذا تقرر.

العلم والقرآن
لم يكن قرار وجدة بالحصول على الدراجة سببه رغبة طفولية لللعب, انها تريد اثبات ذاتها وانها كأنسان لا تقل عن أ] فتى من اقرانها الذكور, هنا يكمن سر قوة الشخصية الدرامية, فرحلة الحصول على الدراجة ليست مغامرة طفولية تنتهي نهاية سعيدة, بل هي نموذج مجسد لعملية كفاح ضد مجتمع يعاني من شبه فاشية دينية واجتماعية تحط من شأن كل ما هو مؤنث وتتخذ من الدين شكلا للحياة دون جوهر حقيقي.
على حوائط المدرسة ليست ثمة سوى آيات قرآنية واوامر بطاعة اولى الأمر وشعار لا اله إلا الله, على اسوار البيوت وفوق الحافلات وفوق يافطات المحلات, هوس ديني عميق ومتجذر حتى ان الأم توبخ ابنتها كي لا تترك القرآن مفتوحا فيدخله الشيطان! في مقابل الأب الذي لا يزال يتصور أن زوجته هي السبب في انجاب البنات دون أن يعلم حتى الأن أن جنس المولود يحدده الأب وليس للام دخل فيه.
هذه التقابلات الدرامية تعزز من قوة الفكرة داخل السيناريو وتزيد من تماسك الموضوع رغم تشعبه في خطين اساسين, الأول هو الهوس الديني والثاني قضية المرأة في مجتمع منغلق فكريا وحضاريا.
تتجرأ هيفاء على ابراز شكل السلطة المسيطرة على المجتمع, بصريا تقدم ابله حصة مديرة المدرسة وهي توبخ وجدة بينما في خلفية الكادر خلف حصة نرى صورة العائلة المالكة وكأن هيفاء تقدم لنا المعادل البصري على مصدر السلطة والتحكم.
تتكرر صور العائلة المالكة في الفيلم احيانا تهكما واحيانا كجواب بصري على اسئلة درامية تطرحها المخرجة عبر وجدة على الجمهور تاركة الأجابة للصور, يكفي تلك الآية التي تبدأ بها محفظة القرآن علمية التحفيظ للبنات في المدرسة (واطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم)
اختيار في منتهى الذكاء سواء مستوى عملية التلقين والتدجين التي تمارس على الأجيال الجديدة او على مستوى النقد السياسي والأجتماعي لمجتمع يعاني من قشور التدين الظاهري.
وعندما تقرر المدرسة ان تقيم مسابقة يجب أن تكون المسابقة مرتبطة بالقرأن الكريم, أي حفظه وتجويده وتفسيره وجائزتها1000 ريال, بينما وجدة لا تحتاج سوى ل800 ريال فقط لشراء الدراجة.
هنا تصعد الحبكة في قوة نحو هدفها, سيكون على وجدة حفظ وتجويد خمسة ايات من القرأن كي تفوز بثمن الدراجة, تبلغ الحبكة ذروتها الفكرية, انه مجتمع يدفع افراده إلى حفظ القرآن من أجل تحقيق اغراضهم الشخصية, ولم تتأثر وجدة بما حفظته ولكنها حفظت وجودت, لم يتغير شئ في شخصيتها لأن لها هدفا من وراء عملية الحفظ, ان تلك الحبكة تمثل جوهر النقد الذاتي الذي تكنه هيفاء لمجتمع يدفع افراده لمثل هذه التصرفات, لو انه مجتمع حر يسمح للمرأة بمكانة راقية دون تحكمات او تحريمات واعتبارات العورة والشرف لما كان على وجدة ان تقبل على حفظ القرآن بهذا الشغف من اجل شراء دراجتها , بل ان الحبكة تبلغ ألقها الخاص عندما تفوز وجدة بالفعل ولكنها لا تحصل على مبلغ الجائزة لأنها نطقت الصدق ولم تكذب وقالت انها تريد شراء دراجة مما دعا المدرسة/رمز السلطة الدينية والمعنوية ان تقول ان الدراجات ليست للفتيات”المؤمنات”الذين يبغون الحفاظ على شرفهم(هكذا بالنص) ثم تقرر التبرع نيابة عن وجدة بالمال إلى فلسطين كي تحصل وجدة على ثواب معاونة الاجئين.
 في هذا المشهد تبلغ الكوميديا السوداء حدها الأقصى, فالمدرسة لا تمنع وجدة من تحقيق حلمها بما اجتهدت من اجله ولكنها تقرر نيابة عنها ان تمنحها ثوابا هي لم تطلبه ولم تسع له ولم تفكر فيه بحكم سنها وطفولتها, وتقرن المدرسة ركوب الدراجة انه لا يصح للفتيات المؤمنات وهو خطاب يمثل قمة الفاشية الدينية, ليس لانه غير علمي لكنه غير انساني ايضا في التعامل مع موقف كهذا.

تحريم الصور وزواج القاصرات
يعتمد السيناريو على مشاهد عابرة تمثل قطعا متفرقة من صورة النقد الاجتماعي الشاملة التي تقدمها هيفاء بخبث سينمائي عميق, في مشهد عابر تدخل المحفظة على الفتيات الصغيرات الائي لم يبلغ معظمهن لتجد تلميذة طفلة توزع صور على زميلاتها وعندما تسألها ما هذه الصور تقول لها انها صور زفافها-اي الطفلة- فترد المدرسة ممنوع احضار الصور للمدرسة لأن الصور حرام, ثم تطلب منهم البدء في التجويد ليصبح هذا المشهد العابر ذروة من ذرى النقد الفني لمجتمع يحرم الصور لكنه يحلل زواج الأطفال.
قد تتهم هيفاء بأنها تعاني من ازمة التجربة الأولى في كونها تريد الحديث عن قضايا كثيرة في زمن الفيلم المحدود لكن في الحقيقة استطاعت بقدرتها السلسلة على الحكي وكثافة لغتها ان تجتاز تلك الازمة باقتدار خاصة فيما يتعلق بالحبكة الموازية لصراع وجدة في الحصول على دراجة وهي حبكة رغبة ابيها في الزواج على امها لانجاب الولد ووضع المرأة في المجتمع السعودي صاحب النفوذ الذكوري المطلق.
استطاعت المخرجة من خلال مجمل مشاهد البيت وعلاقة الأم بصديقتها التي تعمل في مستشفى قريب من البيت وعلاقتها بالسائق الهندي أن تجسد معاناة الزوجة في مثل هذه المجتمعات, وان تستخدمها ببراعة في النهاية كي تصب في الحبكة الرئيسية.
فبعد أن تفشل وجدة في الحصول على قيمة الجائزة, وبعد ان يذهب الاب كي يتزوج من امراة اخرى تاركا زوجته الجميلة المحبة المتفانية التي لم تشأ اغضابه بالعمل في مستشفى قريب من البيت لأنه يحتوي على احتكاك بالرجال وتحملت سخافة السائق الهندي, بعد كل هذا يتركها ويذهب لأخرى مما يدفعها لأن تقرر شراء الدراجة لابنتها.

الطريق
في المشهد الأخير تخرج وجدة من خلف الباب المغلق تتابعها الكاميرا وهي تذهب كي تحقق رغبتها التي سعت من اجلها عبر رحلة مضنية, تتسابق هي وصديقها الصغير, ثم تسبقه تتابعها الكاميرا وهي تجري بسرعة الريح حرة متألقة سعيدة, تفرغ كل الكبت الذي احتشد داخل المتفرج عبر متابعته للاحداث.
تتوقف الكاميرا عن متابعتها وفي لقطة واسعة تتركها تتجه نحو الأفق الذي ما هو إلا طريق سريع تمرق فيه السيارات بسرعة خاطفة, انه طريق الحياة المفتوحين من الأتجاهين والذي يجسد بداية رحلة جديدة او لنقل بداية البداية, فرحلة وجدة لم تنتهي بحصولها على الدراجة واثبات تفوقها على صديقها في السباق الطفولي ولكن رحلتها الحقيقة ستبدأ في مواجه مفترق طريق بين الحرية والقمع وبين التمرد والأنصياع وراء ثقافة القطيع.
تنتقل الكاميرا إلى لقطة متوسطة امامية لوجدة وهي تنظر يمينا ويسارا بعد أن وصلت إلى الطريق السريع, اي الطريقين سوف تختار, اي الأتجاهين سوف تسير, ثم تظلم الشاشة تاركة السؤال معلقا في وجدان المتلقي.
بهذه اللقطة تترك هيفاء مغزى الفيلم مفتوحا للتأويل, انها تضع اقواسا لكنها لا تحد خيال المتفرج او وجدانه القوس الاول بدأ مع المشهد الاول عندما خرجت وجدة عن قطيع المنشدين والقوس الثاني ولا نقول قوس النهاية عندما حققت وجدة حلمها باقتناء الدراجة وتوقفت كي تختار بين الأتجاهات في حرية ورغبة في تقرير المصير.
ان وجدة هو نموذج لسينما المقاومة الفكرية او لفن المقاومة, انه يذكرنا في مستوى من مستوياته برائعة عبد الرحمن منيف شرق المتوسط(التي تجسد صورة حية لعذاب مناضل شرقي عندما تخلى عن مبادئه وأن كنا هنا اما موقف عكسي تمام ولكن بنفس القوة التأثيرية), كيف للفن أن يعضد ويقاوم ويكشف ويبوح ويفضح ويؤثر وجدانيا وذهنيا على متلقيه وجمهوره سواء على المستوى المحلي أو على مستوى العالم.


إعلان