الوطن والمنفى..

ما الوطن؟ ذكريات حقيقية أم أحلام؟

ندى الأزهري – باريس
غادرت وطنها صغيرة وتنقلت بين عدة “أوطان”، شكلت في خيالها صورة لوطنها الأول، فكيف هي هذه الصورة؟ مبنية على ذكريات حقيقية أم على أحلام؟
جيهان شعيب “اللبنانية” التي ولدت في بيروت وتركتها قبل بدء الحرب الأهلية بقليل متنقلة  مع عائلتها بين المكسيك وفرنسا، اختارت السينما بعد دراستها للفلسفة والمسرح وبدات مع الافلام القصيرة والمتوسطة وكان “تحت سريري” قد شد الانتباه عند عرضه في مهرجان كان في تظاهرة اسبوع النقاد. في فيلمها الوثائقي الأول” الوطن الحلم” ،الذي عرض في دور العرض الفرنسية مؤخرا، تحاول البحث عن صورة الوطن في أذهان منفيين من خلال سيرة أربعة لبنانينن من جيل الحرب تركوا لبنان صغارا وتربوا خارجه، بعضهم كان يعود إليه من حين لآخر والبعض عاد بعد أن كبر. تحاول معهم اكتشاف وطن الحلم الذي استقر في الخيال.

ما هي صورة “الوطن الحلم”؟ وهل صورة لبنان التي بنيت في الخيال موجودة حقا؟ جيهان شعيب تجوب لبنان باحثة مع شخصياتها عن هذه  الصورة، عن أماكن ساهمت بتشكيل هوياتهم، أرضهم الداخلية الحميمية منطلقة من ” المكان كوسيلة لانطلاق كل منهم نحو خيالاته”، للبحث عن لبنان كما كان في الماضي ولبنان المخترع في المنفى، ولبنان الحاضر… في عملية توليف موفقة ساهمت في التعبير عن علاقة كل منهم بالأرض وبالوطن.
الفيلم هو وجهة نظرها مقابل وجهات نظر أفراد من جيلها تقاسموا  التجربة نفسها فقد اشتركوا في المنفى وتشكلوا خارج لبنان. وقفت خلف الكاميرا تحاورهم تعلق بكلمات شاعرية على مشاعرهم اكتشافاتهم… وفي الحين ذاته تكشف عن دواخلها وعلاقتها الذاتية مع الأمكنة مع الوطن. سعت إلى معرفة صورة البلد المتخيل في أذهانهم علاقتهم مع لبنان، هذا الوطن الأولي موطن الطفولة الذي ظل في خيالهم صورا يستعيدونها.  فمن أين جاءت وكيف تشكلت؟؟ انطلقت شعيب من تجاربهم الشخصية في كتابتها لسيناريو الفيلم محاولة عبرها  تلمس الإجابة عن الهوية وعن  الوطن وعما يبقى في ذاكرة من يغادره، أهو أشياء ملموسة أم صور في الخيال؟ وما هو لبنان المتخيل العالق في الذاكرة؟  وما “الشيء” اللبناني الذي يعلَم شخصياتهم؟
المكان كان بطلا بامتياز في هذا الشريط. المخرجة وكاتبة السيناريو، صورتهم جمعيهم في أمكنتهم في لبنان، باستثناء الكاتب المسرحي وجدي معوض المقيم في كندا والذي تُمثَل مسرحياته في شتى أنحاء العالم. معوَض الذي “أعطى صوتا وكلماتا وجسدا لكل هذا الجيل التائه، الرحالة والصامت، لكل منفيي الحرب اللبنانية”، فضل البقاء في المطار. حاورته شعيب  بين رحيلين، بين أرضين. هل يخشى اكتشاف حقيقة لبنانه هذا الذي شكل طفولته والذي بات منبعا لابداعاته الأدبية؟ لقد سعى لفهم كل التلقينات و كل ما حاولوا اقناعه به طفلا عن الخشية من الآخر وكرهه ليتحرر منها من هذه الروابط التي تثقله. فيما تسعى الصحفية والمخرجة كاتيا جرجورة التي ولدت في كندا سنة بدء الحرب، إلى التجذر في لبنانها. كاتيا تغطي أخطر الصراعات منذ بدايات الشباب من الحرب في العراق إلى أفغانستان وفلسطين وكأنها” تريد عيش صدى الفظاعات التي نجت منها” وكأنها تكفر عن عدم معايشتها لحرب لبنان، وقد وهبتها حرب تموز 2006 هويتها اللبنانية و رسختها في لبنان “بفضل” رصاصة عبرتها وأعطتها “اخيرا” الحق في الانتماء إلى لبنان. لكل طريقته في البحث عما يربطه بالبلد. باتريك شيحا المخرج الذي كان لبنان بالنسبة له ” عالما بعيدا واسطوريا منسوجا من الأوهام” ومن حكايات جدته لأمه الهنغارية التي أحبت أميرا لبنانيا في بيروت الخمسينات، يريد لبنانه، الحاضر وليس الماضي الذي عاشه الاهل.

جيهان شعيب

أما  شقيقة المخرجة ندى  فاختارت الرقص التعبيري وسيلة للتواصل مع وطنها، لم تكن تشعر بلبنانيتها في الضواحي الباريسية حيث نشات وكان التعبير بالجسد طريقها لاكتشاف جذورها، حين غادرت لبنان غيرت اسمها وأضاعت لغتها ورفضت الكلام وها هي تعود إلى أماكن ذكرياتها الاولى لتتساءل في الفيلم عن الروابط التي تربطها ببلدها الأول. يفتتح الفيلم بها وهي عائدة في المطار، ويكون جواز السفر هو الاشكال الأول” لبنانية فرنسية”. لكن ندى التي تتعلم العربية تحاول من جديد اكتشاف الجذور، وقد باتت تشعر بلبنانيتها من خلال اشياء معاشة أو ملموسة كالمطار، فنجان القهوة، غرفتها…
تلتقط الكاميرا المخفي في تركيزها على اللقطات المقربة وعبر تعابير الوجه ولحظات الصمت(ندى) او على العكس عبر الحيوية والحركة( كاتيا)… و تنجح في التعبير عن اللا محكي. ويعالج السيناريو قصصا ذاتية عن الهوية، عن المنفى والعودة والحرب وعن مشاعر لمسها كل منا حين غادر طفولته، موطنه الأول. ويطرح تساؤلات وبحث عن إجابات تنطلق من الفردي لتصل إلى الجماعي، ليكتشف كل منا شيئا من ذاته في بحثهم وتساؤلاتهم، فهل يحق لنا الاحتفال والعيش بطبيعية فيما هم يعانون هناك؟ وما الذي  ينقله الآباء لأبنائهم وماسينقله هؤلاء بدورهم لأولادهم؟…
ولكن يبقى السؤال هل من حاجة حقا لمعرفة ماهية الوطن أم يفضل تركه كما شُكَل في الخيال؟


إعلان