سنوات الجمر والرماد..وثائقي عراقي عن حركة الأنصار
يركّز فيلم” سنوات الجمر والرماد”، على التأريخ والأرشفة، معتمداً مقتنيات شخصية: صور فوتوغرافية و شهادات. ويذهب البعض إلى أن ثقافة الأرشفة وتدوين الحوادث ضعيفة لدى المواطن العربي ، مقارنة بالمواطن الغربي، الذي يحفظ تاريخه بنفسه بشكل سلس وتراتبي. التاريخ عند العراقي هو الذاكرة، يعتز بها من منطلق إيديولوجي، وأحياناً نضالي، ما يجعلها عقائدية، يطغى فيها النضال والفخر على وجدانية الأحداث وإنسانية القصص. تظهر هذه الذاكرة العقائدية في بعض شهادات الفيلم مثلاً: “العدو الطبقي” و” هكذا، يتصرف الشيوعي الحقيقي”. وتكمن الخسارة العظيمة للثقافة العراقية، في سيطرة السياسة على الثقافة، وليس العكس. تبعية خسارة، لا تزال تصنع الرموز والزعامات الأدبية والنضالية من باب الانتماء الحزبي بعيداً من الكدح الثقافي الحقيقي.

يستعرض الفيلم تاريخ حركة الأنصار المسلحة في العراق ، ضد نظام البعث، حيث اتّخذت من كردستان موقعاً لها، مرتبطة بالحزب الشيوعي العراقي، رغم احتضانها لمقاتلين إسلاميين ومستقلين من العرب والكرد، وهنا تكمن رمزيتها التاريخية. لكن التفكير الحزبي الضيق، وعوض أن يستفيد من تلك الرمزية، أفقر تنوعها، عندما جيّرها لجهة الحزب الشيوعي العراقي فقط. قامت حركة الأنصار كما يشير الفيلم قبل صدور قرار حزبي معلناً الكفاح المسلح. بمعنى، كما لو أن الحزب اُجبر على تبنيها، وهي سابقة عليه في الاحتكام إلى خيار السلاح. أو وجد فيها سبباً لإعادة ترتيب مركزه المهتز أصلاً، بفعل هجمة البعث عليه، بعدما تحالف معه في جبهة وطنية لسنوات عدةّ، أعطتْ ليس شرعية يسارية إلى نظام البعث فحسب، بل تزكية إلى صدام كقائد يساري ومنقذ، ينبغي التعاون معه. هذا يعتبره الكثيرون خطأ الحزب الشيوعي الاستراتيجي. ويبدو أنه خطأ، لم يُعترف بفداحته لغاية الآن، سوف يشارك بما جرى في العراق لاحقاً. يبدو من الفيلم وكأن قدر العراق يتأرجح بين ثنائية الانهيار الشامل أو النهوض الشامل، وهي حالة تطرفية عراقية بامتياز، ماضياً وحاضراً.
أدرك المخرج علي رفيق مأزق مادته الفيلمية، التي هي عبارة عن شهادات شخصية لمقاتلين، لا بّد لها من معالجة سينمائية، والاّ، فسوف تتخذ شكل كتاب فوتوغرافي سردي. لذلك، التجأ إلى أسلوب التقطيع منقذاً الفيلم من الرتابة: الطبيعة، الطبابة، العائلة، التموين، المعارك، الأنفال والانتفاضة، وأخيراً أفكار وآراء. غياب الوثيقة التاريخية، دفع بالمخرج إلى الدراما رغم توّفر الصور الفوتوغرافية وبعض مشاهد المعارك وتفاصيل الحياة اليومية للأنصار، اشتغل عليها المخرج، ما جعلها تبدو كوثيقة. للراوي جاذبية تؤدي إلى كتاب، لا إلى السينما، سيما غاية الفيلم تبدو تعريفية، تؤرخ قضية الأنصار التي تتعرّض إلى النسيان والظلم وسوء الفهم. من هنا لم يخض الفيلم عميقاً في السياسية مغلّباً الجانب الإنساني. شهد العراق في العام 1967 حركة الكفاح المسلح في الأهوار الجنوبية من طرف القيادة المركزية، الجناح المنشق من الحزب الشيوعي العراقي، وفيها مثقفون مثل الشهيد خالد محمود زكي مستشار المفكر برتراند راسل حينذاك، محاكاة للثورة في غابات بوليفيا. قمعت الحركة من قبل السلطات العراقية، ولم توّثق جلياً للأسف لا أدباً ولا تاريخاً سياسياً.
يتحاشى الفيلم الاهمال الحزبي والشخصي، وصولاً إلى أرشفة ومناقشة مرحلة مهمة من النضال الوطني العراقي عامة، والشيوعي خاصة. حركة الإنصار متنوعة الاهتمامات والانتماءات، فيها المثقف والطبيب، الكردي والعربي، الإسلامي والعلماني والمستقل، المسيحي والصابئي والمسلم. ينشغل النصير المقاتل في إصدار جرائد ومعارض فنية ومسرحيات، إضافة إلى انشاء إذاعة” صوت الشعب العراقي”، تشرف على هذا كلّه لجنة فنية مختصة تهتم بالفكر والفن. يستعرض فيلم” القيامة الآن” لفرانسيس كوبولا، واقع القوات الأمريكية في فيتنام، إذ تُجلب لهم فرقُ غنائية ترفيهية، بينما تعتني حركة الأنصار في العراق، ومن دون مساعدة خارجية، بالثقافة والفن. ثمة إشارة، إلى النصيرات المقاتلات، في واقع اجتماعي منغلق، ومحيط ريفي كردي متحفظ، لم ير امرأة سافرة فكيف بمشهد مقاتلة تحمل السلاح. في مشهد مؤثر، تروي نصيرة مقاتِلة حيرتها، عندما ينفجر لغم، فيبتر أصابع رفيقها “كان عليّ أن أقرّر بسرعة، كيف سأتصرف بأصابعه المبتورة؟… قررتُ وضعها في الجدول كي يحملها إلى العراق”.
نصيرة أخرى تستعير فستان زفافها من قرية كردية. يبدأ الفيلم بمشهد وثائقي لحالات تعذيب، ثم السجن.. ثم يصبح جهاز اللا سلكي والهاتف، من وسائل الذاكرة التي يتمركز حولها الفيلم: قصص، صور، نشرات جدارية، سكيتشات فنية… لم يبنِ الفيلم درامته على القصة المتحفية، إنمّا على شهادات حيّة لمقاتلين، هم راهناً قد تغيروا شكلياً وفكرياً: تتخلله بعض المقابلات في هولندا، الدنمارك وألمانيا.
ثمة فرق كبير بين صورة النصير المقاتل وقتذاك، وبين صورته الراهنة، ما بين الثلج في كردستان العراق وصورة القنوات المائية في مدينة لايدن. الأهم، الفرق الفكري بين مفاهيم الفترة تلك، والتكوين الراهن، فيبدو البعض غاضباً، الآخر فخوراً، وناقِداً يقول” لم تعطِ تلك الفترة نتائج طيبة، ولم يستفد منها الدارسون”. يمكن الاختلاف مع الآخر سياسياً وعقائدياً، لكن، ثمة اتفاق صريح ومعلن من الجميع على قيمة المشاعر الإنسانية. وهذا باعتقادي، ما يريد الفيلم قوله: الاتفاق على الإنسان. يقول فوكو”: إن ما يدهشني أن الفن غدا شيئاً لا علاقة له إلاّ بالأشياء، وليس بالأفراد أو الحياة … ولكن، ألا يمكن أن تغدو حياة كل فرد تحفة فنية؟ لماذا يكون المصباح أو المنزل موضوعين للفن وليس حياتنا كذلك”.

يقوم الفيلم بتغطية جيدة لتاريخ حركة الانصار( 80 شهادة)، شهادات منسجمة باتجاه واحد تقريباً، لكنها ليست الشهادات كلهّا. تنال واقعة” بشتاشان” حصة قليلة، دقيقة ونصف تقريباً من 68 دقيقة مدة الفيلم. وهي مفصلية في تاريخ الحركة، رغم توصيف الفيلم لها “بالهجوم الغادر”، إضافة إلى شهادة كريم أحمد القيادي في الحزب الشيوعي” هجوم من حزب قومي شوفيني” ، أدّى إلى تمزيق الحركة وسقوط أزيد من 120 شهيداً. يتعامل الفيلم بإنتقائية مهنية مع الشهادات، منها المختلف، (المخرج هو واحد من مقاتلي الحركة). يقول عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وقتذاك” لم يكن لدينا وهم اسقاط السلطة”، ويتابع آخر” للحركة خبرة بالسياقات العسكرية والهجومية… وهي تعرف عدوها الطبقي” وبحسب القيادي كريم أحمد ” إنّها حركة عفوية، ليس لديها خبرة بالاستراتيجيات القتالية” وكأنه يلوم نفسه وحزبه: لماذا، إذاً، لم يعالج الحزب عفوية وطوباوية الحركة، ولماذا اُهدرت دماء المقاتلين، ولماذا، تستمر هذه الغفلية الحزبية حتى الساعة، فيصير الحزب الشيوعي العراقي ثانوياً بعدما كان جماهيرياً وقائداً.
اختار الفيلم الوثائقي” سنوات الجمر والرماد” من 1979- 1991 المعالجة الدرامية عن وعي، مستعملاً التعليق، كان جلّه شاعرياً وعاطفياً، السؤال: ألا تكفي المأساة الحاضرة بقوة، أن تعلن عن نفسها بنفسها من دون معاونة الكلمات؟ سيما، التعليق لم يعطِ معلومة تاريخية أو اجتماعية. بينما تشي الموسيقى التصويرية بتعاضد حميمي مع الدراما، يؤدي مقام النذير تارة، وطوراً علامات المأساة. بالمقابل، هل يبوح الرماد في عنوان الفيلم بما آلت اليه الحركة؟ أو بمصير الحزب الراهن؟ غير أن التعليق يقول: الأنصار هم أول من دخلوا أربيل في وقت الانتفاضة 1991 قبل الأحزاب الكردية الأخرى”، فيرتفع علم الحزب الشيوعي العراقي في نهاية مفتوحة على احتمالات كثيرة.
اللافت، أسماء المشاركين والمساهمين في الفيلم، هي حركية مستعارة.