“يا من عاش”.. أفضل مخرج وثائقي عربي بدبي السينمائي

السينما التونسية.. جوائز هنا وهناك 
أمـل الجمل – دبي 

عندما يتأمل المهتم بشئون الفن السابع خارطة مشاركة الأفلام التونسية بالمهرجانات السينمائية في الربع الأخير من عام 2012 يستشعر بأنه كان عاماً مميزاً لتلك السينما التي لا زالت تقاوم في ظل ظروف سياسية واقتصادية أقل ما تُوصف بها أنها شديدة الصعوبة، فقد حصدت عدداً من الجوائز البارزة والقيمة في مجالي الوثائقي والروائي من مهرجانات دولية مختلفة، منها جائزة المخرج القدير نوري بوزيد كأفضل مخرج عربي في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بجائزة قيمتها 25 ألف دولارا بمهرجان أبو ظبي السينمائي – 10- 20 أكتوبر 2011 – عن فيلمه “ما نموتش”، إنتاج “عبد العزيز بن ملوكة”، وهو انتاج تونسي إماراتي فرنسي مشترك، وبطولة “سهير بن عمارة” و”بهرام العلوي” و”نور مزي”. كما حصدت تونس أيضاً في المهرجان ذاته جائزة أفضل فيلم وثائقي عربي، وقيمتها 50 ألف دولارا عن فيلم “يلعن أبو الفسفاط” للمخرج الشاب “سامي التليلي” من إنتاج “درة بوشوشة” و”محمد الحبيب عطية”. ثم في الأسبوع الأول من ديسمبر حيث انعقدت الدورة الثانية عشر من مهرجان روتردام للفيلم العربي حصد الفيلم الوثائقي الطويل “بنات البوكس” للمخرجين سالم الطرابلسي ولطيفة الدغري بجائزة الصقر الذهبي للأفلام الوثائقية الطويلة، والذي يروي قصص بنات من أحياء مهمشة في الغالب، اخترن هذه الرياضة، الموسوم بها الرجال، للدفاع عن أنوثتهن المهددة في ظل تفشي التحرش بالنساء، وصولا الى اثبات الذات والخروج من حالة التهميش الاجتماعي، وقد حصلت الكثيرات منهن على ألقاب تونسية وقارية وأولمبية.
ومؤخراً شاركت السينما التونسية بثلاثة أفلام في مهرجان دبي السينمائي الدولي التاسع المنعقد في الفترة 9- 16 ديسمبر 2012. الأول “نسمة ليل” روائي طويل للمخرج حميدة الباهي والذي يتعرض للثورة التونسية من خلال شخصية يوسف الذي ينتحلها شخص آخر، والثاني روائي قصير بعنوان “صباط العيد” للمخرج أنيس لسود، والثالث “يا من عاش” – سبق عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والستين خارج المسابقة – والذي اقتنصت مخرجته هند بوجمعة، من بين خمسة عشر مخرجاً ومخرجة، جائزة أفضل مخرج عربي في مسابقة المهر العربي الوثائقي بمهرجان دبي السينمائي.

الطابع الغالب على تلك الأفلام السينمائية أنها من أفلام “الربيع العربي” ومعظمها يهتم بالمرأة، فيلم “بوزيد” يتناول جوانب من التضييق على حرية المرأة بعد الثورة التي أنهت نظام حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في يناير 2011  ليرصد بعدسته التفاصيل الكاشفة إثر التغيرات التي شهدها البلد أثناء الثورة وبعدها، في ظل نمو تيارات متطرفة وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. لذلك لم يكن من المستغرب أن يُهدي المخرج المخضرم جائزته للنساء التونسيات قائلاً عقب تسلمه الجائزة: “فكري وقلبي مع النساء التونسيات في مقاومتهن اليومية ضد كل مظاهر التخلف والذكورة”.

بطلة الفيلم

أما هند بوجمعة فاختارت لفيلمها الوثائقي أن يدور حول المتغيرات في تونس بعد الثورة ورحيل الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وذلك من خلال كفاح امرأة من عائلة فقيرة، اسمها عايدة، من أجل تحسين وضعها الاجتماعي وتوفير أبسط شروط العيش الكريم بعد أن فتحت ثورة يناير 2011 لتونس الأبواب أمام المعدمين أمثالها للمطالبة بحقهم في الحياة والتمتع بالخيرات البلاد.
تستهل المخرجة فيلمها، الممتد على 71 دقيقة، بمشهد مُربك ومثير للقلق والتوتر إذ نرى عايدة وابنها يُحاولان اقتحام أحد المنازل، وعندما يفشل الابن في تحطيم الباب أو خلع القفل يتركان المنزل متجهين إلى بيت آخر، حيث نرى الابن وهو يقفز من فوق أحد الأسوار العالية ليتمكن من فتح باب البيت والدخول إليه ليبيتا هناك. لا نعلم على وجه اليقين كم ليلة قضياها هناك، لكن الأكيد أنهما لم ينعما بالجدران الأربعة طويلاً إذ سرعان ما بدأت الأم بحثها مجدداً عن مأوى آخر.
الفيلم يُمكن اعتباره وثيقة إدانة وصفعة قوية للمسئولين هناك، فهو عن مواطنة تطالب بحقها في أن تنعم بالحياة في بيت من أربع جدران يقيها من التشرد هى وأطفالها الأربعة، وهو الأمر الذي كانت تسعى إليه قبل الثورة التونسية وهو ذاته المستمر بعد الثورة دون تغيير، بعد سقوط النظام البوليسي الفاسد.
يحكي الفيلم الوثائقي الكثير عن الأوضاع في تونس من خلال تتبعه لشخصية عايدة المُعدمة البائسة، التي نراها في كثير من المشاهد وهى تحاول تحطيم حائط ما، أو تكسير جدار ما على مرآى الناس أحياناً وفي غيابهم أحيان أخرى. طرقت كل الأبواب من دون أن تحل معضلتها. فهى امرأة قوية لا تيأس، لكنها في ذات الوقت دافئة ولديها مشاعر إنسانية جميلة فهى تعترف “كنت أرغب في بداية حياتي أن أكوَّن أسرة وأنجب أطفالاً وأعيش حياة سعيدة مستقرة، لكن في كل مرة كنت أخطو فيها للأمام كانت الحياة تُعيدني مرة أخرى للخلف.”
أصبحت عايدة مطلقة ولديها أربعة أطفال – اثنان منهما وضعا في دار رعاية، وأحدهم معاق – تدور من حي إلى آخر بحثاً عن ملاذ آمن يحميهم لكن دون جدوى، وها هى تتعرض للسجن ظلماً. رغم قوتها تكاد تصرخ المرأة: “الآن أنا متعبة جداً، وخائفة لأني غير قادرة على الاستمرار، فقد ظللت هكذا أكثر من أربعين عاماً.”

على مدار عام ونصف من التصوير نجحت هند بوجمعة في تتبع عايدة وهى تنتقل من مكان إلى آخر وتواجه مواقف كثيرة، نشعر معها أحياناً بالخوف عليها وأحياناً بالخوف منها، فنظرة عينيها ببريقها القوي تحمل خليطاً من الأشياء والمعاني المربكة والمقلقة والتي تُثير عطفنا وشفقتنا عليها في ذات الوقت، وربما هذا ما يُفسر اختيار المخرجة لها وإصرارها على أن تواصل الرحلة معها، فقد التقت بها في الشارع أثناء الثورة التونسية عندما كان الشعب التونسي في الشارع يحتفل وسعيد بقدرته على إزاحة بن علي عن المشهد السياسي، مرت عايدة من أمام هند، التقت الأعين للحظة، واصلت عايدة طريقها بينما تحولت عيون هند بحركة “بان” – عرضية – معها لتتبعها، طوال ساعة ظلت تراقبها وبعدها اتخذت قرارها قائلة لنفسها: سأصنع فيلمي عن تلك المرأة.

هند بوجمعة

ما يميز الفيلم، الذي تكلف إنتاجه 120 ألف دولار، إلى جانب بساطته وصدقيته العالية، أنه فيلم عن المعاناة التي يقاسيها المواطن الذي يطالب بحقه، والانسان البسيط المكافح والمطحون، وذلك على خلفية الثورة وحركة الجماهير المتصادمة في ظل التحولات التي شهدها المجتمع التونسي بعد الثورة. حتى أننا لا يمكن أن نلوم عايدة عندما نشعر أنها غير مهتمة بما يحدث في تونس من مخاض سياسي واجتماعي، أو أنها تصف تلك الحركات بالأمر العبثي طالما أنها غير قادرة على تحقيق حلمها بالحصول على سكن خاص بها، فهى تواجه نفس الأشخاص الذين كانوا على اتصال بالظلم الذي تعانيه، فما تشي به كلمات عايدة أنه حتى لو تغير بعض الأشخاص لكن النظام كما هو، لم يتغير سوى وجه النظام، وكما تقول هى عنهم: “إنهم لا يعرفون سوى أن يدوسوا على الشعب وخاصة على النساء.” 
اعتمدت المخرجة على اللقطات الطويلة الممتدة لتتيح الفرصة للمشاهد أن يطل على واقع تلك الأم الفقيرة المعدمة، ولترصد الجو المتكهرب، المليء بالتشاحن والشجار، الموسوم بعدم الانسجام بينها وبين ابنها المعاق ذهنياً والذي لا يُدرك حجم معاناة والدته. مع ذلك لا تغفل المخرجة أن تلتقط أدق التفاصيل فتقترب الكاميرا من الوجوه والعيون لترصد التعبيرات المشتغلة بالغضب، والدموع التي تنهار على الخدين، وحركات الأيدي وهى تفرك في ضيق مأزوم. لا نلمح بالفيلم جماليات إضاءة أو كادرات مرسومة وهو أمر شديد التناسق مع الواقع القبيح الذي تعيشه عايدة.  
بقي أن نُشير أن الفيلم من إنتاج حبيب عطية ودرة بوشوشة وسيناريو مخرجة الفيلم هند بوجمعة التي شاركت في كتابة سيناريوات عدد من الأفلام التونسية وتدرس كتابة السيناريو في إيدوكاتل باريس إذ أخرجت فيلمها القصير الأول في عام 2008، واشتركت في كتابة سيناريو فيلمها تحت الجنة لمصلحة برامج التدريب في ميديا فيلم وأخرجت العديد من أفلام الحملة الترويجية لمهرجان قرطاج السينمائي عامي 2008، 2010، وهى خريجة معهد بروكسل للاقتصاد.


إعلان