غَرق الجّنة الأرضية..!
محمد موسى
لم يَجد الوزير المالديفي السابق غير وصف “الجّنة”، عندما أرآد أن يتحدث عن بلده، المتألف من عدة جزر، والواقع في المحيط الهندي، ليس بعيدا كثيرا عن سواحل دولة الهند، وعندما رغب هذا الوزير بالإسترسال، عاد الى الوصف ذاته وأضاف: ” جزيرتنا هي جنة مخلوطة بجنة أخرى”. هي تبدو كذلك، من علّو الطائرة، بصخور بحرها الفيروزية اللون، والتي يصل صفاء لونها عبر مياة المحيط. الجمال يحيط بكل ركن من أركان الجزيرة الكبرى في البلد، حتى أحيائها الفقيرة، تحاصرها تلك الشواطيء الساحرة المفتوحة على بحر بشمس مشرقة، ويظللها نخيل أخضر. لكن هذه “الجنة”، تغرق كل عام بضعة سنتيمرات في المحيط، ولم يَعّد يَفصلها عن الغرق الكبير سوى عقود قليلة، والمعجزة التي تنتظرها الجزيرة لتنقذها من هذا المصير، لم تَعّد في أيدي أبناء الجزيرة وحدهم، كما إن الرحلة الدون كيشوتية التي يقوم رئيسها المسلم محمد نشيد، والتي تقدم في الفيلم التسجيلي “رئيس الجزيرة”، هي في جوهرها محاولة لإنقاذ العالم، فلا حل للجزيرة سوى بمبادرة كونيّة، إذا نجحت سَتصّل تردداتها حتما الى “المالديف”.

حقق فيلم ” رئيس الجزيرة” للمخرج الامريكي جون شينك، نجاحا نقدياً وشعبياً لافتا عند عرضه في الصالات الأمريكية في منتصف هذا العام، قبل أن يبدأ جولة كبيرة على عدد من مهرجانات السينما حول العالم. هو يجمع بين إسلوبين ينالا بالعادة على إهتمام الجمهور، فهو قدم موضوعة المناخ والثلوث البيئي الحساسة، وخاصة تفاصيل من القمة العالمية المثيرة للجدل حول المناخ التي عقدت في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن في عام 2009، جنبا الى جنب مع قصة شخصية، ضمن بنية سردية مثيرة، إذ رافق الفيلم في معظمه شخصية واحدة، هي للرئيس محمد، وسلط الإنتباه عليها وهي تمر عبر تحديات كبيرة، فبدأ الفيلم، والذي يبلغ طوله الساعة والنصف، قريبا من أفلام الدراما، بتقديمه لخط درامي مرتبط بشخصية حَيّة واضحة المعالم، والمسار الذي قطعته الشخصية الرئيسية وسجلته الكاميرا التسجيلية، يشبه في تقلباته ومفاجئاته، ذلك الذي تقطعه شخصيات متخيّلة.
لا يكتفي فيلم ” رئيس الجزيرة” بتقديم محاولات الرئيس وفريقه لهز العالم وتنبيه لموضوعة التغيير المناخي، هو يستعيد محطات من تاريخ البلد، وسيرة الرئيس محمد نفسه، فالتناغم الذي يبدو إن الجزيرة تعيش فيه، هو هش كثيرا ولم يبلغ النضج أبداً، فالبلد عاش سنوات طويلة تحت حكم الدكتاتورية، ولم يحرر من ذلك الحكم إلا قبل خمسة أعوام فقط، في ثورة شعبية، تشبه ثورات الربيع العربي. فأبناء البلد المثقفيين وفقراه، ثاروا ضد إستثار النظام بثروات البلد، وقمعه الشديد لمعارضيه. كما ساعدت كارثة بيئة حلت بالجزيرة بأطلاق شرارة الثورة الاولى، فنصف الجزيرة غرق في عام 2004، عندما وصلت أمواج “سونامي” هائل للجزيرة، ليكشف عن فساد النظام وقتها، والذي إدعى، إنه خصّص ملايين الدولارات لحماية الجزيرة من كوارث بيئة.
قبل أن يصل الرئيس محمد نشيد الى كوبنهاجن لحضور قمتها العالمية، سترافقه الكاميرا في عدة جولات حول العالم، وفي بلده أيضا، كما كان فريق الفيلم حاضرا عندما أطلق مبادرة لتحويل الجزيرة في غضون سنوات قليلة الى أول بلد في العالم يعتمد في الحصول على طاقته على مصادر طبيعة بالكامل. وستكون الكاميرا مع الرئيس عندما سافر إلى بريطانيا، ليتحدث من هناك عن خطر التغييرات المناخية، والتي شبهها بالنازية في وحشيتها والعواقب التي تنتظر العالم إذا لم يستجيب لمخاطرها. وعندما تصل قمة كوبنهاكن الى طريق مسدود، سيكون الرئيس المُسّلم، الذي يُمثّل واحدة من أصغر دول العالم، هو المحرك لمياها الراكدة، ولولاه لخرجت تلك القمة بدون إتفاقيات وفشل تاريخي.
الكثير من صدق هذا الفيلم التسجيلي المتميز، يعود لصدق الرئيس محمد نفسه، فهو لا يبدو مهموماً أبداً بتقديم صورة مُنمّقة تُروّج له بين أبناء بلده او العالم، فجّل همه يتجه لمشكلة الغرق التي تهدد الجزيرة. لا يبدو إن الحُكم قد غَيّر الرئيس الشاب، فالمشاهد التي يصورها الفيلم للرئيس وهو يزور حي للفقراء في بلده، او بين رؤساء العالم في كوبنهاجن، تشبه تلك الإرشيفية التي صورتها كاميرات التلفزيون له، وهو يصل من بريطانيا ليشارك في ثورة أبناء بلده ضد النظام الدكتاتوري قبل بضعة أعوام. إنه الرجل نفسه، بمشيته الخاصة المتواضعة. في واحد من المشاهد الارشيفية لأيام الثورة المالديفية، تقبض الشرطة على محمد نشيد في تلك الإحتجاجات، يرفعه شرطيان من الارض التي كان يجلس عليها مع عشرات من رفاقه، ويدفعاه إلى شاحنة الشرطة. لا يريد الرئيس الشاب أن ينسى تلك الصور، ينبذ بقوة ترف “المنصّب”. هناك مشهد له، وهو يدخل مياه البحر ببدلته الرسمية، ليصور مشهد، سيكون جزء من حملة تلفزيونية تحذر من غرق الجزيرة القادم. الفيلم يقدم كواليس التصوير تلك. لا يهتم الرئيس بالماء الذي بلل ثيابه، او عدد المرات الذي يتوجب عليه أن يعيد تصوير المشهد، فهمه دائما بالبلد الذي يملك مئات الاعوام من الحضارة، والذي يقترب من الزوال.

يَحّفل الفيلم بالعديد من التفاصيل الخاصة للقاءات الروساء والملوك، ففريق الفيلم، والذي توفرت له فرصة نادرة ليكون في إجتماعات ومؤتمرات لا تدخلها الصحافة بالعادة، سيصور بعض المشاهد الطريفة لكواليس أهل الحكم، كالمشهد الذي تلتفت رئيسة وزراء بنغلادش، وقد نال منها تعب المناقشات في كوبنهاجن ، إلى الرئيس محمد نشيد، وتساله “ما العمل الآن، فشعبها ينتظر منها موقفا حازما في النقاشات، ولا تستطيع أن تعود خالية الوفاض اليه.او ذلك الذي يقوم به ممثل الصين في التجمع ذاته، بسؤال رئيس المالديف عن أسماء الموجديين في صالة، لجأ اليها بعض الرؤساء للراحة.
ينقل الفيلم في نهايته، بأن الرئيس محمد نشيد، والذي رافقه فريق الفيلم إلى بدايات عام 2010، ترك منصبه الرئاسي في عام 2012، وبعد أن تصاعدت حدة الاحتجاجات عليه من أتباع ومتعاطفين مع النظام الديكتاتوري السابق للمالديف، وبأنه فَضّل أن ينسحب حتى لا تتخبط البلاد في مشاكل داخلية، تشغلها عن حل مشكلة الإحتباس الحراري والغرق السريع الذي تواجهه. هذا الموقف النبيل الآخر، سيمنح الفيلم التسجيلي أهمية خاصة غير متوقعة، فالفيلم، كما يبدو، قد رافق شخصية سياسية شديدة الندرّة، والتفاصيل التي قدمها عن عمل رئيس، ربما لن نشاهد بمثل صدقها في أي أفلام تسجيلية قادمة في المستقبل القريب.