فيلم فصل الكركدن
كيف تخرج السينما من الشعر والفيلم من القصيدة
سالونيك – رامي عبد الرازق
ضمن العروض الخاصة بتكريمات المخرجين خلال فعاليات الدورة الثالثة والخمسين لمهرجان سالونيك الدولي( 2-11 نوفمبر) اقيم العرض الخاص لاحدث افلام المخرج الأيراني بهمان قبادي (انف الفصول) والمستوحي من قصيدة بنفس الأسم لأحد الشعراء الأيرانيين الذين قضوا اكثر من 27 عاما في سجون الثورة الأسلامية في ايران.
تضم قائمة افلام قبادي 25 فيلما خلال ثلاثة وعشرين عاما, اي انه ينجز فيلما كل عام تقريبا وكان اخر افلامه “لا أحد يعرف القطط الفارسية” والذي اعتبر عمل ايقوني فيما يخص فكرة السينما النضالية او على حد تعبير السينمائي التشيلي ميجيل ليتن وقت ان كان منفيا (انه لا توجد امام السينمائي سوى طريقة واحدة موثوقة لأستعادة صورة الوطن المفقود, وهي ان يعود ويقوم بتصويره من الداخل) وهو ما فعله بهمان عندما تسلل إلى ايران وقام بتصوير “القطط الفارسية”.
اقام المهرجان مؤتمرا صحفيا خاصا للمخرج وقام بعرض اربعة من اهم تجاربه السينمائية خلال العشر سنوات الاخيرة وهم بالترتيب الزمني”زمن الخيول المخمورة”إنتاج 99 و”السلاحف يمكن ان تطير” إنتاج 04, و”نصف قمر” إنتاج 06, و”لا أحد يعرف عن القطط الفارسية” 09, وأخيرا أحدث افلامه”فصل الكركدن” 2012 وهو من بطولة الممثلة الأيطالية مونيكا بيلوتشي في دور زوجة الشاعر الأيراني صاحب القصيدة المصورة في الفيلم.
الكاميرا تحلم
تمتد علاقة بهمان بفكرة استخلاص الشعر من الصورة عبر تاريخ طويل من الأفلام, نستطيع ان نلمح هذا في”زمن الخيول المخمورة” و”السلاحف يمكن ان تطير”لكننا هنا امام تجربة مختلفة فليس الفيلم محاولة للخروج بالصورة/الفيلم إلى افق الشعر, ولكن الصورة هنا هي محاولة لترجمة ابيات شعرية او حالة شعرية كاملة بطلها شاعر وقصيدة.
تبدا احداث الفيلم في خريف 2010 عندما يتم الأفراج عن الشاعر العجوز سهيل بعد ثلاثين عاما قضاها في سجون الثورة الأسلامية, وبمجرد خروجه يسافر إلى تركيا بحثا عن زوجته السابقة مينا التي هربت من جحيم الأسلاميين بعد ان تم ابلاغها ان زوجها قد مات اثناء اعتقاله.
لا يخرج سهيل إلى الحياة فقط ولكنه يخرج إلى زمن سائل يتحرك فيه إلى الخلف وإلى الامام حتى لا يصبح للزمن شكل او معنى معروف وإنما هو مجرد مساحة للذكريات والخيال على حد سواء.
يرتد بنا السرد إلى خريف 77 قبل الثورة بقليل عندما كان سهيل شاعرا جميلا يحتفل مع زوجته بصدور احدث دواوينه الشعرية حيث يأخذها في رحلة إلى الغابات كي يكشف لها عن سر هام وهو ان ثمة شجرة كان يجلس اسفلها كي يكتب فّاذ بها تتحدث معه وتملي عليه بعض ابيات القصيدة.
تضعنا هذه المكاشفة الخيالية او الفانتازية امام حقيقة الشخصية وواقعها الذي يمتد ما بين الروحي الخيالي وبين المادي المتجسد, وفي الوقت الذي يصارح فيه سهيل زوجته بذلك السر تلمح لنا الكاميرا ان ثمة عدو متربص بالزوجين وهو السائق الذي يعمل لدى الجنرال والد مينا احد رجال الشاه, هذا العدو/الخصم الدرامي سوف يتحول بلحيته الكثة إلى رمز مباشر ومكثف في نفس الوقت لواقع الثورة الأسلامية وحقيقة الأختباء خلف قناع الدين والحرب بأسم الله.
منذ اللقطات الأولى وبهمان يحاول ان يجعلنا على مستوى الصورة ندرك اننا لسنا في واقع سينمائي عادي ولكن ارضية الفيلم هي حالة شعرية فالأشياء والشخصيات والألوان المستخدمة يغلب عليها طابع خيالي كأنها قادمة عبر ذاكرة الكاميرا او عبر احلامها بالشخصيات.
واذا كانت افلام بهمان السابقة قد لعبت على وتر”الواقعية الشعرية” من خلال تصوير واضاءة وشخصيات واماكن واقعية يتفجر الشعر من علاقتها ببعضها البعض ومن علاقتها بالزمن والعالم, فنحن هنا امام تجربة مختلفة حيث تخرج السينما من الشعر او يخرج الفيلم من القصيدة وليس العكس.
سائل الزمن
يحاول الفيلم في مناطق كثيرة لا ان يعبر بصريا عن ابيات القصيدة ولكن ان يكون هو القصيدة وهو ما استدعى عدة عمليات سردية وعدة اساليب في الحكي والتصوير والمونتاج كان اهمها كما ذكرنا فكرة تسييل الزمن وتحويله إلى فضاء للتعبير وليس مجرد اطار للحكي, فمن المعروف ان القصة تحكي خلال فترة زمنية معينة وعبر تسلسل زمني معين سواء كان تصاعديا او عكسيا او حتى متكسرا ولكن بهمان يتعامل مع الزمن كما يتعامل معه الشعر حيث لكل بيت /لقطة زمنها الخاص ولا نقصد به زمن حدوثه فقط ولكن زمن الشعور به او التفكر فيه او حتى محاولة التأكد إذا ما كانت ما تعرضه اللقطة قد حدث بالفعل ام انه محض خيال او ذكرى لم تتحقق.
يخرج سهيل من السجن ليبدأ الزمن في التدفق داخل روحه دون ان يحمله المخرج عبء الذاكرة التي تحكي او تستعيد بل يلجأ إلى فكرة الذاكرة الجمعية حيث تشترك الكاميرا مع الشخصيات في التذكر فلا تضعنا امام سؤال السرد التقليدي(من الذي يتذكر؟)
في لقطات كثيرة تبدو الكاميرا مثل شخص يرافق الشاعر او الزوجة خاصة في مشاهد جلوس الشاعر بالسيارة لمراقبة منزل زوجته في تركيا, ان الكاميرا تظل جالسة بالسيارة حين يخرج هو منها ليقف على البحر كأنها تريد ان تمنحه فسحة من الوقت بمفرده قبل ام تعاود مرافقته او التماهي معه.
صحيح ان فكرة شخصنه الكاميرا ليست بالأبتكار الجديد ولكن بهمان هنا يوظفها جيدا في اطار شعرية اللحظات وانسنة السرد قدر الامكان كي لا يتحول إلى عصير سيريالي غامض نتيجة الحالة المونتاجية واللونية التي يسرد من خلالها الفيلم.

نعرف من خلال السائل الزمني المتدفق عبر رحلة سهيل إلى تركيا حجم المأساة الأنسانية التي تعرض لها على يد الأسلاميين حين اتهموه بانه يكتب شعر سياسي يحرض ضد(النظام المقدس للجمهورية الأسلامية), ويستخدم القاضي الذي يحاكمه هذا التعبير(النظام المقدس)ليضعنا ذهنيا امام موقف الثورة الأسلامية من نفسها, انها ترى نفسها ثورة مقدسة بأسم الله ولذا فإن كل ما يصدر عنها هو بأمر الله وبرضاه.
في مقابل هذا(النظام المقدس)نجد السائق الذي يحب مينا في صمت لدرجة المرض, يأخذنا سائل الزمن عبر ذاكرته ليعيدنا إلى نفس اللحظة التي كان يكاشف فيها الشاعر زوجته بأمر الشجرة التي تتلو عليه ابيات القصيدة, بينما السائق الجالس في السيارة يمارس جنسا شاذا مع احمر الشفاه الخاص بالزوجة حيث يمتصه ويأكله في وله ونشوة.
لحظات متناقضة لا يمكن فيها الحكم على احد فالسائق مريض بالحب ولكنه حب هوسي احمق بلا عقل, والشاعر زوج وعاشق يقدر قيمة الزوجة التي منحتها له الحياة.
ولكن في الوقت الذي يخرج فيه الشاعر حبه على شكل ابيات شعرية نجد السائق وقد صار احد الثوار الأسلاميين في محاولة منه للأنتقام من الجنرال والد الزوجة الذي لقنه ضربا مبرحا جراء محاولة تعديه على الزوجة في السيارة.
الموقف السياسي
هنا يعلن بهمان بوضوح عن موقفه السياسي من صناع الثورة الأسلامية المزعومة, حيث يعتمد السائق على علاقته بالحرس الثوري من اجل تلفيق تهمة للشاعر وزوجته والحكم بسجنه ثلاثين عاما وبسجنها عشرة اعوام, ولكن السجن ليس كافيا فهو لا يريد الأنتقام فقط ولكنه يريدها ايضا فيقع الزوج في دائرة التعذيب الجنهمية عبر مشاهد يختلط فيها الخيالي بالجحيمي, في محاولة لاجباره على تطليق زوجته دون وجه حق.
وتصل ذروة المأساة السياسية اذا جاز التعبير عندما يسمح للزوج والزوجه باللقاء ولكن دون ان يروا بعضهم البعض اي يرتدي كل منهم كيس اسود على رأسه وفي ذروة لقائهم الجنسي الحار يقتحمهم السائق ويقصي الزوج ويغتصب الزوجة التي تحمل وتلد طفلين.
قد تبدو واقعة الأغتصاب والحمل المشكوك في كونه سفاحا او غير سفاح احد كلاشيهات السينما السياسية المعروفة, فالمرأة هي الوطن او البلد والزوج هو المواطن الشرعي والمغتصب هو كل من يرغب في مباشرتها دون وجه حق وبسلطة ديكتاتورية يمنحها لنفسه بأسم الدين او الأيديولوجيا.
ولكن اتساع الأفق الشعري في الفيلم يُخرج هذا الكلاشيه من تقليديته ويحيله إلى صورة شعرية كاملة عبر تصوير عملية الولادة وخروج الطفلين من الرحم ثم بعد ذلك عبر تتبع مسار أحد التوأمين والتي تعمل كعاهرة من اجل المال, ويلتقيها الأب الشاعر خلال بحثه عن الأم لنشك انه ضاجعها او ضاجعته دون ان يدري او تدري انه من الممكن ان يكون اباها.
هذا الخلط في الأنساب والشك الكامل في حدود العلاقات الأنسانية هو خروج بالأكلاشية من ضيق الأطار السياسي إلى فكرة اختلال النظام الكوني كله الناتج عن حدوث مثل تلك الامور القهرية والنزاعات الانسانية الكبرى.
جسد مونيكا
لأول مرة يلجأ بهمان لاستخدام الجرافيك في افلامه سواء من خلال عملية تلوين المشاهد واللقطات بشكل مختلف عن صورتها الواقعية لاضفاء اللمسة الشعرية عليها او من خلال لقطات فانتازية توازي السرد الشعري خلال الأحداث, مثل مشهد اتخاذ الشاعر قراره بقتل الرجل الذي حطم حياته, حيث نراه وهو يقود سيارته وسط قطيع من وحيد القرن ويصدم احدهم فيقتله, هذه الصورة الشعرية الكاملة لم تكن لتتحقق سوى بالجرافيك المنفذ بحرفية مناسبة بل ويستكمل المخرج الصورة في مشهد النهاية عندما تهبط السيارة بالشاعر والسائق في المياه فينظر الشاعر ليجد وحيد القرن الذي دهسه غارقا امامه في البحر فيدرك انه اخيرا نال انتقامه وقتل من تصور نفسه وحيد للقرن لا يقهر.
ويتخلى بهمان عن نزعته التسجيلية التي ظهرت في كل افلامه تقريبا خاصة المجموعة الأخيرة ليقدم لنا حالة تمثيلية كاملة يديرها بأقتدار خاصة في تعامله مع مونيكا بيلوتشي الأيقونية الأيطالية التي جاءت اختيار موفق بشكل كبير, لان مرحلتها العمرية مكنتها من الظهور بكلا الوجهين الأول للزوجة الشابة قبل الثورة والثاني للمرأة التي تحطمت روحها على يد السائق المهووس رمز الثورية الأسلامية.
وكان لجوء بهمان لمونيكا على ما يبدو سببه وجود مشاهد جنسية داخل الفيلم وهي مشاهد لا يمكن الأستغناء عنها او محاكاتها لانها جزء من جسد القصيدة الفيلمية ومونيكا لها ذلك الجمال ذو المسحة الشرقية التي يمكن ان يجعلك تصدق انها ايرانية بالفعل.
لم نرها كثيرا وهي تتحدث الفارسية ليس فقط من اجل التجاوز عن فكرة اللكنة واللغة ولكن لأننا امام شخصية محطمة روحيا ومنتهية الصلاحية الأنسانية, صامتة, تطفح عيونها عذاب وشك في جدوى العالم والبشر, مسجونة كما نراها في كثير من المشاهد من خلف شباك حديدية او اسلاك متقاطعة, حريتها الحركية فقط داخل حيز الذارعين العاشقين لزوجها اثناء ممارسة الحب قبل ان يُنتزع منها وتُنتزع منه ليعتليها السائق رمز الثورة المقدسة.

قدرة كبيرة على الشعور بالترهل الروحي والخواء الداخلي عبر الملامح المصمطة والعيون الميتة والشعر الذي غادرته النضرة والنعومة.
لا يترك بهمان في الفيلم اداة من ادوات السرد إلا ويوظفها بشعرية كبيرة, بعض مقاطع القصيدة نسمعها بصوت الشاعر وهو يرددها في الفضاء والبعض الاخر بصوت الزوجة ولكن الممتع هو ان نستمع إلى صوت الشجرة التي تحدث عنها الشاعر وهي تتلو بعض ابيات القصيدة تماما كما اخبر زوجته, ان صوت الشجرة هنا- وهي تلك الشجرة نفسها التي نراها في اللقطات الواسعة للغابة تبدو متجذرة وعتيقة- يشعرنا انها تأخذ محل الراوي او المعلق على الاحداث والمشاعر ولكن من داخل الفيلم نفسه وليس من خارجه, اي من داخل الواقع الشعري الذي مهد له المخرج بشخصياته وليس من خارج الاطار الخيالي العام الذي وضعه منذ البداية.
تتطور الاحداث ببطء نتيجة للتوقف امام كل لحظة ومحاولة اعتصارها للنهاية, يبدو ان الزوجة قد اسلمت نفسها فيما بعد للسائق فقط كي تغادر ايران بعيدا عن النظام المقدس او انه عثر عليها فيما بعد هي واولادها في تركيا, الشك الكامل هو الحقيقة الوحيدة التي يقدمها لنا المخرج فالحكاية لا تعنيه كثيرا وللمتلقي ان يكملها كما يشاء, ولكن ما وراء الحكاية من عبث واختلال وهدم وانكسار وموت هو ما يريد ان يصل به للمتفرج.
من السهل ان تجلس الشاعر امام الكاميرا طوال الفيلم ليتحدث عن معاناته في سجون الثورة او ان تفرد مشاهد كاملة لعمليات التعذيب المختلفة, ولكن كيف تترجم انكسار الروح البشرية إلى صورة فهذا هو الغرض! وهنا تتضاءل قيمة الحكاية في مقابل قيمة المعنى الوجداني لتتخذ السينما النضالية اذا ما صح التعبير صورة اكثر عمقا من مجرد كونها منشور سياسي فخيم بصلاحية زمنية مؤقته.
هل قتل الشاعر الرجل الذي هدم حياته في النهاية حقا عندما اخذه معه في السيارة؟ ام خيل له هذا؟ من عين الزوجة التي تغادر إلى اوروبا مع ابنتها نرى سيارة الشاعر العجوز وهي ترفع من داخل الماء ولا ندري هل انتحر بداخلها بمفرده ام نال انتقامه كما صوره لنا المخرج في مشهد غرق وحيد القرن!
مرة أخرى لا يمنحنا المخرج اليقين الكامل بالاحداث يتركها لمشاعرنا التي ربما تكملها انتقاما من السائق المهووس او لا تكملها تعاطفا مع حبه الهوسي الجنوني, ولكننا في النهاية ندرك ان ما حدث قبل ثلاثين عاما وطوال الثلاثين عاما من عمر الدولة الفارسية لم يكن مجرد ثورة على حكم الشاه وبأسم الأسلام ولكنه قهر روحي ونفسي ووجداني وجسدي مرفوض بكل المقاييس وان من يدعون”الثورية المقدسة”هم في الأصل مجرد مهاوييس بالسيطرة وحب الأمتلاك ورفض الأخر والرغبة في قهره والتحكم في روحه وهو ما لا يقبله الدين الذي يتحدثون بأسمه او الرب الذي يقاتلون من اجله.