زيرو:عن المدينة التي تأكل ابطالها
مراكش- المغرب
رامي عبد الرازق
ضمن عروض المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته الثانية عشرة شهد جمهور المدينة الحمراء العرض الأول لفيلم زيرو للمخرج المغربي نور الدين لخماري والذي يستكمل به مشروعه الذي بدأه مع”كازانيغرا” عام 2009 حيث تتخذ المدينة محورا اساسيا في رؤية الكاتب للمجتمع وتعرية الواقع الفج دون مواربة أو تجميل.
شارك في المسابقة خمسة عشر فيلما من 14 دولة حيث تشارك المغرب هذا العام بفيلمين هما “زيرو” و”يا خيل الله” للمخرج نبيل عيوش الذي سبق وان شارك في مهرجان كان خلال دورته الأخيرة بالأضافة إلى افلام من الهند”هوية” والتشيك”براعم الزهور”وفرنسا”الأسد الصغير”وكوريا الجنوبية”محتوم”وتايوان” لمسة ضوء”وايران”تابور”والمانيا”ياولد”وانجلترا”اغنية لماريون” والدنمارك”اختطاف”وكندا”شاحنة” بالأضافة إلى استونيا بفيلم مميز”جمع الفطر”.
اما خارج المسابقة فقد ضم 13 فيلما اهمها “زهور الحرب” احدث افلام زانج ايمو المخرج الصيني الكبير والمكرم ضمن فعاليات الدورة ال12 و”موسم وحيد القرن”للأيراني بهمان قبادي و”رحمكِ” للفليبيني ميندوزا ايضا احد المكرمين ضمن فعاليات الدورة بالأضافة إلى الفيلم المغربي”الطريق إلى كابول” إخراج ابراهيم شكيري والذي حقق اعلى ايرادات في السينما المغربية خلال الشهور الأخيرة.
زيرو = صفر في الحياة
في فيلم نور الدين لخماري”كزانيغرا”كانت المدينة حاضرة عبر شخصيات خارجة عن القانون تتسم بالفوضوية وتمثل جانبا من العالم السفلي او القاع النفسي للمدينة وفي “زيرو” يأتي الوجه الأخر للعملة حيث ضابط شرطة ينتمي لهذا القاع النفسي ولكن من داخل المؤسسة المنوط بها تطبيق القانون والمحافظة على روحه .
اسم زيرو يعكس من عنوان الفيلم جزء كبير من ابعاد الشخصية النفسية والذهنية, ان الزيرو هو الصفر او اللاقيمة وهي اشارة معنوية ومادية لوضع الشخصية ونوعها الدرامي والحياتي انه لا بطل في مدينة لا تعترف اساسا بالأبطال, الشعور الأساسي للشخصية هو العجز وعدم جدوى وجوده في الحياة وعدم جدوى الحياة نفسها, البعد الاجتماعي للشخصية يتمثل في اب مقعد مريض يرفض أن يأخذ العلاج رغبة في الموت بعد ان كان لاعب كرة شهير ولأن الزيرو شخصية عاجة عن الفعل كحال كل لا بطل نجده يراعى والده عبر الاستجابة لكل طلباته الغير مشروعة كأن يحضر له الحشيش او يجلب له عاهرة حين تشتد به الشهوة رغم مرضه, انها علاقة حب وكره في ذات الوقت فهو رغم رعايته لأبيه يكن له حقد دفين بسبب يقينه انه كان السبب في هروب امه وهو ما يزال صغيرا.
على المستوي المهني لا يكاد يمارس زيرو عمله كشرطي بل يستغله على العكس تماما كأن يتواطئ مع العاهرة الصغيرة ميمي للنصب على الزبائن بحجة أنها قاصر هاربة وعندما يطلب منه بالفعل أن يبحث عن قاصر هاربة لا يملك العزم ولا الأرادة على البحث عنها تاركا امها تجوب الشوارع حاملة صورتها.
على المستوى النفسي هو شخص ضائع سكير يحاول نسيان فشله وشعوره بالاقيمة عبر الخمر مهوش الشعر ذو لحية فوضوية لا نكاد نراه نائما الا في لقطات قليلة داخل حوض البانيو الذي يجعلنا نشعر أن شبه كائن حي وليس انسان نائم بل ويعكس وجوده في البانيو رغبته الدفينة في تنظيف ذاته وشعوره بالدنس المستمر, الدنس النفسي.
كازانيغرا
في زيرو تبدو المدينة حاضرة في ملامح البشر والشخصيات اكثر ما هي حاضرة في الكادرات على عكس تجربة”كازانيغرا” او لنقل استكمالا لها.
الشخصيات هنا كلها شخصيات غير سوية, كائنات ليلية مشوهة وفاسدة ومُفسدة, ان الوجه الوحشي للمدن الذي لا يظهر سوى في الليل, في مدينة لخماري يبدو اليوم مجرد ليل طويل لا ينتهي, المشاهد النهارية قليلة وشاحبة وكأن النهار لا يأتيها او كأنها لا تنام وإذا نامت لا تصحو نهارا.
من اجل ابراز هذا الجانب الوحشي او انياب المدينة لدينا الشخصيات الفاسدة المتمثلة في العاهرات والقواد وراسم الوشوم ورئيس الشرطة الشرير ومساعديه ورئيسة شكبة الدعارة بل وحتى صبية الشوارع والهائمون ليلا على وجوههم, هذه هي انياب المدينة المشرعة, اما الفريسة فهي تلك الأرواح البريئة التي تأتي طلبا للحياة والرزق والمتمثلة في الفتاة القاصر القادمة من مدينة الخميسة والتي تضيع في شوارع “كازا” ولا يظهر لها أثر ونلاحظ أن لخماري لم يذكر المدينة بالأسم كما ذكرها في فيلمه السابق هناك تعمد للتجريد قليلا ربما بما يتناسب مع الواقعية الشعرية التي يتخذها اطارا لفيلمه.
اختيار المخرج لأن تكون الفتاة قاصر اختيار جيد لأنها تجسد فكرة البراءة المغتالة, فهي فراشة رقيقة تقع في يد صياد مريض يهوى حبسها وانتهاكها وهو المعادل الشعري والرمزي للفراشات الذين نجدهم في الصناديق الزجاجية لدى رسام الوشوم المريض بالمازوخية, والذي يمارس شهوته عبر اصطياد الفراشات وحبسها كي ينقل الرسومات التي على اجنحتها, او لنقل يمتصها ويعيد رسمها على اكتاف العاهرات الصغيرات في شبكة الدعارة ليتطابق الرمز في مستواه الشعري مع مدلوله في المستوى الواقعي.
الأبيض والأسود والأزرق

يحتوي الفيلم بصريا على ثلاثة ألوان اساسية هي الأبيض لون المدينة(الدار البيضاء) والذي نراه مستواه الرمزي في الجدران البيضاء لشقة زيرو وفي مشهد اقتحامه لقاعة المطعم الفاخر الذي تتخذه شبكة الدعارة واجهة لأعمالها القذرة, حيث نراه غارقا في البياض سواء على مستوى الديكور او الأثاث , أما الأسود(النيغرا) كما اطلق عليه لخماري في فيلمه السابق فنراه في ملابس زيرو والعاهرات وملابس النساء والرجال من الطبقة الكريمية التي تمثل جانبا من انياب المدينة في قاعة المطعم, كذلك نراه في الظلال الكثيفة التي تعشش بتقنية جيدة داخل شقة زيرو وفي زوايا الشوارع المظلمة وملامح الشخصيات المطفأة.
ويأتي اللون الأزرق لون الموت والبرودة متجليا في ظلال الشخصيات خاصة في مشاهد الليل حيث انعكاسها بسبب ضوء القمر او اضواء المحلات او تلك الكروما الزرقاء الخفيفة لبعض اللقطات والتي تعكس حالة البرودة والموت خاصة في المشهد الفانتازي الذي يرى فيه زيرو لحظة سكره الفتاة الصغيرة التي يبحث عنها متجسدة في وجوه كل الفتيات الائي يجوبن شوارع المدينة بدءا من المتسولة وبائعة الخضر حتى النادلة وعاهرة النواصى.
الكرسي المتحرك
في المشهد الاول من الفيلم نرى زيرو وهو يجلس على كرسي متحرك سنعرف فيما بعد أنه كرسي أبيه الذي توفى وأمامه الجدران البيضاء لشقته/مدينة/ الدار البيضا, الكرسي هنا دلالة العجز والذي يتجسد بصريا عبر السرد الأخراجي لدى لخماري من اول لقطة, شخص سليم يجلس على كرسي متحرك إذن هو عاجز عن الفعل, هو لا بطل, ثم نراه في نفس المشهد/اللقطة وهو ينهض ليقوم بتنظيف حوائط الشقة البيضاء بشكل انفعالي هيستيري ثم تنزل التيترات.
هذا المشهد يضعنا أمام رحلة البحث عن المحفز الذي دفعه لهذه الخطوة المعنوية(تنظيف الشقة) والمادية(تنظيف المدينة من شبكة الدعارة وفساد الشرطة).
اغلب مشاهد الفيلم إذن تدور عبر فلاش باك من ذاكرة زيرو وتتقاطع مع مشاهد تنظيف جدران الشقة المستمر لنكتشف المعنى المجازي المخبأ, فزيرو بعد موت أبيه الذي كان رغم قسوته اللفظية بل والبدنية في بعض الأحيان هو محطة الحب الرئيسية في حياته, ومكمن عقدته, وبعد موت الأب وضياع الحبيبة العابرة(الطبيبة الجميلة التي تصبح هي الأخرى جزء من انتهاك المدينة له وجزء من عجزه عن الفعل) بعد هذا الموت المادي والمعنوي يتجسد لزيرو مدى عجزه الكامل فيقرر تنظيف جدران الشقة كمعادل رمزي لقراره بتنظيف المدينة فيذهب كي يقتحم بيت الدعارة ويقتل كل من فيه من الفاسدين حتى يصل إلى الفتاة/الفراشة الصغيرة التي كان يبحث عنها منذ أن اوصته أمها.
والأم هنا هي جزء من قرار زيرو بالفعل لينتقل من خانة اللابطل إلى خانة البطل أي الفاعل فزيرو يعاني من حالة فقدان مزمن لأمه وقراره بمساعدة الأم والبحث عن الفتاة نابع من تكوينه النفسي والشخصي وليس قرار درامي من خارج الشخصية الغرض منه العنترية أو الوصول لذروة منذ ذرى الأكشن البوليسي فقط.
ولكنه في النهاية وبعد عملية التطهير الجزئية التي يمارسها للمدينة وبعد اطلاقه للفراشات الحبيسة سواء رمزيا بتحطين البيوت الزجاجية في بيت رسام الوشوم أو ماديا عبر افتحام بيت الدعارة وقتل القواد ورئيس الشرطة ورئيس الشبكة في النهاية عقب هذه البطولة الكاملة يتموت البطل.
يقتل زيرو على يد رسام الوشوم المريض انتقاما منه, فهذه مدينة لا تعترف بالأبطال ولا تسمح لهم بالأستمرار في قراراتهم بإزالة الأوساخ عن جدرانها واطلاق الفراشات الحبيسة, انها مدينة لا تعترف بالبطولة ولا تترك مجالا أو متسعا فيها.
ان موت زيرو هو في الحقيقة نهاية مفتوحة لمشروع المخرج في علاقته بالمدينة فالبطل الذي حاول تنظيفها مات مقتولا وقاتله المريض بالشذوذ يسير طليقا في الشوارع, فالواقعية الشعرية التي يتخذها الفيلم اطارا له لا تعترف بالنهايات السعيدة او الخاتمة المكتملة لأن الواقع لا يقدمها او يقبلها منطقه الوحشي العنيف.
إلى جانب تشكيله الألوان داخل السرد البصري استخدم المخرج الأيقاع البطئ(سلو موشن) في مشاهد حركة زيرو داخل المدينة ليلا كأنه يعاني من الكساد والبطء والجمود وكأن الوقت يمر عليه قاسيا او لا يمر, بالأضافة إلى توظيف الموسيقى المعتمدة على صولو ساكسفون يشبه ايقاعات الجاز الحزينة التي تدل على الوحدة والحيرة والعذاب الداخلي واليأس من التغير.
الملاحظة الأساسية على الحوار هي اللغة الفجة العارية البذيئة التي استخدمتها الشخصيات وهي جزء من الأطار الواقعي لمشروع لخماري وهي امتداد للغة كزانيغرا حيث لغة الشارع الكاملة التي هي جزء من عنف المدينة ووحشيتها وانيابها, لم يكن من الممكن تقديم هذه التجربة عن القاع النفسي للمدينة دون ان تكون لغتها الحوشية حاضرة وإلا بدا الأمر مفتعلا او غير متطابق بين المستوى المعنوي للفيلم والمستوى المادي, واللغة الحارقة هنا هي جزء من الواقع القاسي والحارق وليست مجرد مغازلة للجمهور الذي تثيرحماسته سماع الألفاظ الخارجة على الشاشة.
ربما كانت ازمة الفيلم الأساسية ليست في اللغة ولكن في كثرة الأحالات التي نستشعرها خلال الأحداث فهجوم البطل على بيت الدعارة يذكرنا بالمقطع الشهير لروبرت دنيرو في الفيلم الأيقوني”سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي خاصة مع عملية التحول من كونه شخص عاجز لا منتمي إلى فعل الأنتماء لقضية(التطهير) والهجوم على بيت الدعارة من اجل الفتاة الصغيرة.
اما موتيفة الفراشات المحتجزة في بيوت زجاجية فتذكرنا برواية جامع الفراشات والفيلم المأخوذ عنها والتي كانت تحكي فصة شاب مريض نفسيا يصطاد الفراشات ويحبسها بينما يخطف الفتيات ويغتصبهم ويقتلهم مثلما يفعل مع الفراشات.
بالأضافة إلى التشابة العام بين العوالم الخاصة بالعاهرات والضباط الفاسدين وعلب الليل وهو ما وضع الفيلم في فخ الأتهام بالأقتباس والأستلهام والنقل ولكنه يظل رغم ذلك تجربة سينمائية هامه في مشروع مخرجه وفي المستوى التقني والتكنيكي الذي وصلت إليه السينما المغربية والتي تعتبر الان رقم واحد على مستوى السينما المنتجة في المنطقة العربية على مستوى تنوع الموضوعات وقوة الأشكال والأساليب السينمائية خاصة على مستوى الفيلم الفلسفي وافلام الأكشن النفسي والواقعية الشعرية.