مصريون تحت العسكر في ( العودة الى الساحة)
أمستردام – محمد موسى
سبق العرض العالمي الاول للفيلم التسجيلي ( العودة الى الساحة) للمخرج التشيكي الاصل بيتر لوم، ضمن برنامج “إشارات” ، وهو احد برامج الدورة الاخيرة لمهرجان روتردام السينمائي الدولي، عرض فيلم قصير للمخرج نفسه، حمل عنوان ( الفيسبوك الطفل)، والذي ينطلق من حادثة نشرتها صحف مصرية وتلقفتها بعد ذلك محطات اعلامية عدة حول العالم، عن أب مصري أطلق على إبنته التي ولدت ايام الثورة المصرية اسم ( فيسبوك)، ليبدأ الفيلم بعدها، وباسلوبية كوميدية، رحلة للبحث عن العائلة المصرية تلك ، مستعرضا خلالها ، حس الفكاهة الشهير عند المصريين.
ورغم إن مناسبة اسم طفلة الثورة المصرية ، وعلاقة الأسم بالدور الذي لعبه موقع التواصل الاجتماعي الشهير في الثورة المصرية، هي في جوهرها ، إحتفالا بالمنجز الذي حققه المصريين في العام الماضي ، الا ان الفيلم القصير، نقل أيضا حزنا لا تخطئه العين عند كثير من المصريين الذين مروا في الفيلم، او الذين تحدثوا الى كاميرا المخرج. وكأن الثورة التي زلزلت مصر، اصبحت الآن ذكرى في الماضي البعيد. لكن الخواء الذي تركه الفيلم القصير، لن يقارن ابدا بذلك الذي سيخلفه الفيلم التسجيلي الطويل للمخرج والذي عرض مباشرة بعد الفيلم القصير في العروض الثلاث في المهرجان الهولندي ، ونقل صورة تشائمية للغاية عما يجري في مصر، ليس فقط عن ثورتها الناقصة، بل عن النظم الاجتماعية المستبدة الباقية، والتي لم تطح بها ثورة الخامس والعشرين من يناير.
ياتي فيلم ( العودة الى الساحة ) بعد سلسلة من الافلام التسجيلية التي تناولت الثورة المصرية الاولى، والتي بدا فيلمنا هذا غير مشغول بها كثيرا، بقدر تركيزه على الثورة الاخرى المستمرة في مصر، والتي يشير اليها عنوان الفيلم، فعودة المصريون الى ميدان التحرير الشهير في القاهرة، حدثت بعد ايام قصيرة فقط من تنحي الرئيس المصري السابق، ولم يتوقف الميدان ( الساحة) على ان يكون رمزا لثورات المستقبل القادمة، علاوة على تحولها، اي الساحة ذاتها، منصة تنابز وأستعراض عضلات لاحزاب وحركات سياسية، ومكان تسكع لمجرمين واوباش.

يقدم المخرج التسجيلي المستقل والذي قضى اشهر طويلة في مصر، شخصيات مصرية بعضها شهيرة، كاخ مايكل نبيل، الشاب الذي قضى اشهر في السجن بسبب اتهامه باهانة المجلس العسكري ( اطلق سراح نبيل قبل ايام قليلة من عرض الفيلم ، واحتفل مهرجان روتردام بحريته)، واخرى مجهولة تماما، كصبي أتهم هو وعشيرته بانه وراء ضرب متظاهري مبدان التحرير، في الحادثة التي ستعرف بعد ذلك بواقعة الجمل. كما سنتعرف على زوجين قبطيين شابين ، وفتاة مصرية ، ستواجه اقصى هجمات السلطات العسكرية دناءة.
لن يقضي الفيلم اوقاتا طويلة في مقابلات مفصلة مع شخصياته الخمس. هو يركز بالمقابل على مرافقتهم في حياتهم اليومية، وتسجيل ردود الافعال على نشاط بعضهم السياسي العلني ، وتقاطعهم مع آخريين في الشوارع مثلا، لتغدو أفعال عابرين عادين يدخلون عديد من مشاهد الفيلم بدون استذان، اكثر اهمية بدلالاتها مما يصدر عن شخصيات الفيلم الخمس احيانا. لتلقائيتها ونقلها لصورة لا تصلنا غالبا، لانها تمر بالعادة، بمرشحات المؤسسات الاعلامية وشركات الانتاج الكبرى، والتي تملك عشرات الاسباب والمحظورات التي تعرقل وصول تلك الصور الى المشاهد العادي.
من مشاهد الفيلم الرائعة في هذا السياق، ذلك المشهد الطويل، الذي من المستعبد لمخرج غير مستقل كحال بيتر لوم ان ينجزه بتلك الحرية، لسيدة في ميدان التحرير كانت ترفع شعار مؤثر عن حرية المصريين التي يجب ان تصان. تركز الكاميرا لثواني طويلة على وجه الفتاة الفتي، وحجابها الطويل. فجأة يدخل كادر الكاميرا، شخص ملتحي، ويقوم بانزال الشعار لكي يغطي وجه الفتاة بالكامل، ويحجب صورتها البهية عن الكاميرا. عندها نعرف ان هذه السيدة، هي في الواقع جزء من حزب اسلامي، وانها وإن كانت هناك في الساحة تدافع عن حرية أبناء بلدها، لكنها لا تملك حريتها الشخصية.
من الشخصيات الخمس في الفيلم، تبرز “سلوى”، التي سنتعرف عليها في قريتها الصغيرة في الريف المصري. هي واحدة من الفتيات المصريات التي كسرت بشائر الثورة والتغيير الذي ستحمله قيودها، لتترك قريتها وتنظم الى ثوار ميدان التحرير، لكن الضربة التي ستتلقاها “سلوى”، لن تكون برصاص حي او مطاطي، بل اشد وضاعة، فهي ستتهم من المجلس العسكري بانها كانت تمارس افعال غير لائقة اخلاقية في الميدان، ليرسلها التحقيق الى طبيب مختص لفحص عذريتها. رغم الدعم الذي تتلقاه سلوى من عائلتها الفقيرة للغاية، وامها، الا ان ضغوطات القرية الصغيرة على العائلة، بل محاولة طردهم من بيتهم المتهالك، تدفع بالفتاة مجددا الى القاهرة.
مفلسة، وبجروح علاقة عاطفية، انتهت بسبب قضية الفساد الاخلاقي الذي اتهمت فيه، تعود سلوى الى ميدان التحرير، الذي يترك ندبات كبيرة على روح الفتاة، دون ان يمنحها اي مكاسب على الاطلاق، بل ليتركها مشوشة تماما، اقرب الى الضياع في مجتمع يبدو ان الثورة لم تدفعه لتبديل مثله، او تجعله اقل تسامحا في احكامه.
ثورات عربية بعيون مخرجين اجانب
مع فيلم بيتير لوم ( العودة الى الساحة) ، والذي عرض في مهرجان روتردام في شهر يناير الماضي ، والعرض العالمي الاول لفيلم ( الثوري المتردد) للبريطاني شون مكاليستر ويسجل فيه جزء من يوميات من ثورة اليمن ، والذي عرض في مهرجان برلين السينمائي هذا الشهر ، بدئت حقبة تسجيل مخرجون اجانب للثورات العربية ، والتي لن تتوقف قريبا على الارجح . فالتغييرات المتسارعة التي تمر بها المنطقة العربية ، ستلهم الكثيرين لانجاز افلام تسجل اثار ذلك الحراك على تفاصيل الحياة اليومية لسكان هذا الجزء من العالم.

لا تنحصر الفروقات بين افلام الثورات العربية التي تعود لمخرجيين اجانب عن تلك التي يقف ورائها مخرجين عرب ، بالاسلوب والمقاربة ، هي تختلف بشكل جوهري من النقطة التي تنطلق منها ، فهي لا تعير اهمية كبيرة للمحظورات الاجتماعية المتوراثة ، فكاميرا بيتر لوم تتجول كما يحلو في مصر ، تلتقي من تشاء من الناس ، لا يقيدها “لا شعور جمعي” ، لذلك تصل الى وجهات صادمة حقا ، فلم تنجح اي وسيلة اعلامية ، بنقل الرعب الذي يمثله “البطلجية” في مصر ، كما نقله الفيلم ، عندما احاط هؤلاء المخرج واحدى شخصيات فيلمه في ميدان التحرير ، كما لم تبدو السلطات العسكرية المصرية بالنفوذ القوي ، كما ظهرت في الفيلم. فهو يدخلون عنوة منزل عائلة “سلوى” في الريف المصري ، ويطلبون من العائلة وقف التصوير ، وطرد المخرج من القرية. كما لا يتردد المخرج بنقل نموذج من الاهانات التي يتلقاها بعض الاقباط المصريين من السلطات الامنية المصرية او من جماعات اخرى ، والتي تزايدت مع الفوضى الامنية التي تسود مصر. فحساسية العلاقة بين مسلمين ومسيحين لا تعني المخرج كثيرا ، بقدر اهتمامه بما تواجه شخصية فيلمه من مصاعب.
يعمل المخرج بيتر لوم المقيم في كندا بشكل مستقل تماما ، ويقوم بانتاج افلامه بنفسه ، دون شروط شركات الانتاج الكبيرة او الصغيرة، الامر الذي يمنح افلامه تلك الحرية الفريدة ، والتي ستجذب الحكومة الايرانية ، لتوافق على طلبه، و كأول مخرج اجنبي يسمح له بمرافقة الرئيس الايراني احمدي نجاد لعام كامل في رحلاته الداخلية والخارجية ، والتي يسجلها بيتر لوم في فيلمه (رسائل الى الرئيس) والذي عرض في عام 2009.