دوغلاس ترومبل: صلة الوصل بين كوبريك ومالك
ما هو الرابط المشترك بين فيلم ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء» وبين فيلم ترنس مالك «شجرة المعرفة»؟..
الذي الإجابة يعرف يرفع يده..!
إحدى الإجابات أن كليهما يتناول شيئاً من تاريخ الحياة على الأرض. صحيح.
جواب آخر، أن كليهما ينتمي إلى مخرج لا يستطيع أي منتج التدخل في عمل لهما. أيضاً صحيح.
لكن الجواب الثالث هو الأصح: دوغلاس ترومبل، فنان المؤثرات الخاصّة الذي تحتفي به أكاديمية العلوم والفنون السينمائية هذا العام بمنحه جائزتها الخاصّة عن مجمل أعماله.
كتعريف، فإن دوغلاس ترومبل ( 69 سنة) بدأ حياته في السينما من القمّة، لقد وضع تصاميم كل تلك المؤثرات البصرية الخاصّة التي استخدمها المخرج الراحل ستانلي كوبريك في فيلمه «2001: أوديسا الفضاء» سنة 1968
وهو عاد إلى القمّة (التي ربما لم يتركها أساساً) عندما طلبه ترنس مالك لإنجاز المؤثرات الخاصّة لفيلمه الجديد «شجرة الحياة» (2011). النتيجة فيلمان مرتبطان بأكثر من جانب، يكمل ارتباطهما إنجاز بصري خلاّق سببه فنان واحد هو دوغلاس ترومبل.
في ?«2001: أوديسا الفضاء»? صاغ ترومبل احتياجات المخرج المهمّة: طرح بديلا بصريا مناسبا وقويا عوض الحوار، في الدقائق العشرين الأولى من الفيلم، ثم في الدقائق العشرين الأخيرة منه او نحوها. ثلث الساعة الأولى تابعنا فيها نظرية داروين معدّلة. القتل، عند كوبريك لم يبدأ بقابيل وهابيل بل بغوريلا تدافع عن مكانها قرب الماء وتكتشف خلال ذلك وسيلة لقوّة رادعة. السلاح الأول. ما يبدو ناب فيل أو- في شتّى الأحوال- قطعة كبيرة صلبة من العظام. إذ يهوى بها على الغوريلا الآخر يرديه ميّتاً. تتراجع الغوريلات الأخرى ويرفع القرد الضخم ذلك السلاح ويرميه فوقه وتسلط الكاميرا الصورة على تلك القطعة القاتلة وهي ترتفع في الفضاء ومنها ينقلنا كوبريك من الأرض إلى الفضاء ومن الزمن السابق للتاريخ إلى الزمن اللاحق له. الإنسان في الفضاء. ليس وحيداً بل يعيش مع عدوّ جديد هو الكومبيوتر. العقل المفكّر الذي تم صنعه وليس خلقه.
خلال ذلك، وإذا ما فكّـرنا بالبصريات وحدها، نتابع صوراً غير مسبوقة. لا الأرض بدت على هذا النحو ولا الفضاء كذلك. وفي كليهما صمت إلا من لقطات تحيط بها المؤثرات الخاصّـة. المرّة الأولى التي أدّت فيها المؤثرات شخصية خاصّة بها على هذا النحو الفاعل والمتّسع.
هنا، نستطيع استخدام العبارة ذاتها (باستثناء كلمتي “المرّة الأولى”) في وصف شغل ترومبل على فيلم ترنس مالك «شجرة الحياة».

“شجرة الحياة” فيه أكثر من فعل لم يتم تسجيله في السينما من قبل، وكلها تطلّبت شغل ترومبل الإبداعي مجدّداً. لم يتم من قبل- مثلاً- أن يقطع مخرج ما حكاية تروي وضعاً درامياً ليحكي تاريخ النشأة (هذه المرّة من وجهة نظر دينية). الأب (براد بت) والأم (جسيكا لانغ) يتعاملان مع وضع عائلي خاص. الأول قاس والثانية حانية وأحد أولادهما الثلاث يشعر بالغضب حيال أبيه ويكاد يأخذ بثأره من أخيه ثم من أبيه. فجأة يترك المخرج كل ذلك وينطلق في رحلة عبر التاريخ. من الولادة الأولى إلى عالم الدينوصورات وما بعد. ماء وجبال وأشجار وكوكب الأرض من الخارج، بل الكون بأسره، والعالم بتفاصيله الصغيرة وبمعالمه العملاقة على حد سواء. وماذا عن شون بن السائر فوق تلك الصخور الموحشة والوعرة في طريقه إلى نهايات الحياة؟
دوغلاس ترومبل ليس للشاشة الصغيرة، ولا حتى لشاشة كبيرة بمقاييس صالات المول. هل تستطيع أن تقارن بين نسخة من أحد هذين الفيلمين معروضة على شاشة كبيرة فعلاً، وبين نسخة من أحدهما على شاشة متوسّطة او صغيرة؟ نعم لكن لصالح النسخة التي تستخدم الشاشة الكبيرة وحدها، وذلك على عكس العديد من أفلام اليوم تلعب فيها المؤثرات دوراً رئيسياً. تجد نفسك تقبلها صغيرة وتقبلها كبيرة على حد سواء لأنها ليست مصنوعة بفاعلية وباحتراف فني خالص كما الحال مع شغل ترومبل وحرفته.
وهذان الفيلمان ليسا وحدهما اللذان استفادا من فنّه. وقف وراء فيلم ريدلي سكوت الكلاسيكي Blade Runner حيث عالم الغد الداكن يشغل بالك بقدر ما تشغل القصّة اهتمامك.
أيضاً هو الذي صنع المؤثرات البصرية لفيلم ستيفن سبيلبرغ «لقاءات قريبة من النوع الثالث»، هذا بالإضافة إلى فيلمي روبرت وايز الجيّدين «اندروميدا ستراين» و«ستار ترك» وكلاهما من الخيال العلمي أيضاً.
حين تشاهد هذه الأفلام أو بعضها، قبل أو بعد مشاهدة دوغلاس ترومبل يصعد منصّة الأوسكار ليستلم جائزة لم تُمنح له حين استحقّها عن تلك الأفلام، ستدرك البعد الشاسع بين عمله وبين أعمال سواه. السر يكمن في أن الفيلم ومؤثرات ترومبل يصبحان لغة واحدة… لغة صامتة وجميلة ومعبّرة.