“ستو زاد: العشق الأول” و”الحوض الخامس”

من الأفلام التسجيلية التي ظهرت أخيرا وأثارت الاهتمام الفيلم المصري “ستو زاد: العشق الأول” للمخرجة الشابة هبة يسري، والفيلم اللبناني “الحوض الخامس” للمخرج سيمون الهبر. وقد شهد مهرجان دبي السينمائي عرض الفيلمين للمرة الأولى.
ولعل القاسم المشترك بين الفيلمين يتمثل في أن كليهما ينحو ناحية الرؤية الذاتية، أي أن كلا من مخرجي الفيلمين يسعى إلى تقديم رؤيته الشخصية الخاصة للحدث أو بالأحرى، للشخصية التي يدور حولها فيلمه، متطلعا إلى الماضي من منظور اليوم، محاولا فهم الماضي الذي كان في ضوء الحاضر، أو العودة إلى الماضي من أجل استلهام الدروس المستفادة من التجربة الماضية.
الفيلم الأول “ستو زاد” هو الرؤية الشخصية الخاصة لمخرجته هبة يسري لجدتها المطربة الشهيرة شهرزاد التي تألقت كثيرا في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
وشهرزاد التي لاتزال على قيد الحياة، بعد أن أصبحت طاعنة في السن، لاتزال، كما نكتشف من خلال هذا الفيلم، تتمتع بذاكرة مدهشة، وقدرة هائلة على الحديث والتذكر والحكي بل والغناء أيضا!
كان صوتها الذهبي أسطورة جعلت أم كلثوم وهي في عز مجدها، تعترف به وتقر علانية بموهبة المطربة الشابة الجميلة التي كانت تتميز بصوت أوبرالي (سوبرانو) تألق في الغناء العربي من خلال أغانيها الشهيرة.
تجمع المخرجة مادة وثائقية جيدة جدا، وتجري الكثير من المقابلات مع عدد من الشخصيات التي عايشت شهرزاد وأهم هذه الشخصيات بلا شك والد المخرجة وابن شهرزاد، الذي يروي ويتحفظ ويعترض ويتناقض مع نفسه كاشفا الكثير من عقلية ما يسمى بـ”الرجل الشرقي”، أي ابن الطبقة الوسطى الخاضع لقيم المحافظة الذي وجد نفسه في بؤرة الأضواء بسبب شهرة والدته، التي أصبح يرفضها اليوم (بأثر رجعي!).. وصديقه الذي يطلق عليه “الشيخ”، ووالده الذي لعب دورا عظيما في الوقوف بجانب شهرزاد التي أحبها وتزوجها.. ولكن الأكثر بروزا في الفيلم تلك الحوارات التي لا تهدأ بين هبة وجدتها شهرزاد، وكأن هبة نفسها تحاول ان تفهم كيف تمكنت هذه المرأة في الماضي من أن تعبر عن موهبتها بكل تلك القوة والصرامة، وهل كان مجتمع الأمس أكثر تقدما من مجتمع اليوم، في حين أننا قطعنا كل تلك الرحلة الطويلة في اتجاه تحرير النظرة الى الفنون وخصوصا فن الغناء، أو كما نتخيل!
أؤكد أن المادة التسجيلية والوثائقية التي صورتها أو حصلت عليها هبة يسري كانت كفيلة لو أحسنت استخدامها، بصنع فيلم بديع، يبقى في القلوب والعقول طويلا.

المخرجة هبة يسري مع جدتها شهرزاد

لكن مشكلة هذا الفيلم (وهي مشكلة واضحة في أفلام تسجيلية كثيرة) أنه يخلط أولا، بين الريبورتاج التليفزيوني، وبين السينما التسجيلية، كما يعاني من الاستطرادات والثرثرة واللف والدوران حول الفكرة وتكرارها.
وهنا يجب أن ننتبه لفكرة أن الفيلم، أي فيلم، يجب أن يأتي في سياق درامي أو قصصي أي فيه من خيال المخرج بقدر ما فيه من واقعية الوثيقة وقوتها ودلالاتها. وهو ما لم تنجح فيه المخرجة هبة يسري بكل أسف.
إنها تضل وتتوه داخل تلافيف وتجاويف تلك الحوارات الطويلة المرهقة المضنية، وتصر على الظهور في الفيلم امام الكاميرا، وتقاطع، وتصرخ كثيرا في حين أن صوتها لا يساعدها بل ولا يبدو أن المتفرج يمكنه أن يتحمله بسبب ضعفه الواضح الذي ينتج عنه عدم قدرتها على الحديث بسلاسة فتصرخ ويعلو صوتها كثيرا وتصبح تلك الحوارات التي كان يمكن أن تكشف الكثير، عبئا على الفيلم بدلا من أن تساعد على الكشف عن الجوانب المختلفة في الشخصية التي نحن بصددها.
الجانب الآخر كما أشرت يتمثل في غياب السياق الذي يتدخل فيه نوع من “الخيال” من جانب المخرجة. فقد كان يتعين عليها أن تعرف ماذا تريد؟ وكيف ستحكي قصة علاقتها بهذه الشخصية الطاغية، أي شخصية الجدة الشهيرة، وأين تبدأ وأين تنتهي، وأين هي اللحظات الأكثر قوة في الفيلم التي يجب أن تصل اليها ذروة الفيلم (الدرامية).. لكنها فوتت الاستفادة من تلك الذروة بل وقضت في مشاهد أخرى على ما كان ينتظره المتفرج بشوق بالغ، ولم تنجح حتى في استخدام الأغاني في موضعها الصحيح، واستعانت بأغان معينة مأخوذة من تسجيلات تليفزيونية لحفلات شهرزاد وكررت استخدامها في حين أغفلت حتى الاستعانة بأغان أهم وأشهر واكثر قوة وتعبيرا وردت اشارات كثيرة في الفيلم اليها، واختارت أن تقفل الفيلم دون اشباع ودون أن نفهم ما الذي كانت تود الوصول اليه من هذه الرحلة داخل ذاكرة الجدة العجوز المتألقة.
والمشكلة في النهاية هي مشكلة اختيار، وسياق، وايقاع. وجزء من هذه المشكلة يأتي من فكرة الاعجاب بكل ما تم الحصول عليه أو تصويره من مادة، والرغبة بالتالي، في وضعه كله في الفيلم دون سياق واضح، وتقطيع المقابلات المسجلة والمصورة بنوع من التشوش والاضطراب في توزيعها على مسار الفيلم.
والنتيجة أننا أمام مادة خام مثيرة شديدة الخصوصية، لكنها كانت بالتأكيد، في حاجة إلى إعادة عمل المونتاج لها، لكي يصبح لدينا فيلم متقن له نسق وسياق، ومنهج في الكشف عن الجوانب المختلفة في الشخصية، بدلا من هذا الحشد العشوائي الذي لا يبقى منه الكثير في النهاية بكل أسف!

المخرج سيمون الهبر

أما فيلم “الحوض الخامس” فهو على النقيض، فيلم يستمد مادته من موضوع قد يبدو ثقيلا جافا لا يثير الخيال كثيرا، لكن مخرجه ينجح في استخراج اللحظات الشعرية الكامنة فيه ببراعة، والخروج من المحيط الضيق للفيلم الذي يتعلق بالعودة الى عالم والده، سائق الشاحنة الذي كان يعمل بنشاط ابان الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، لكي يروي دون أي تعليق من جانبه، ودون كثير من الشروح والأرقام والتواريخ والوثائق، كيف كانت مجموعة من أبناء الطبقة الكادحة، من سائقي الشاحنات، تفكر وتتحاور وتتعايش معا، من الجانبين، المسلمين والمسيحيين، وكيف تمكنوا من البقاء، ومن الالتفاف حول المخاطر ونجحوا في البقاء معا والاحتفاظ بالرفقة الجميلة في زمن ماتت فيه الكثير من القيم.
من بيروت الى الريف اللبناني، الى لحظات تتوقف فيها الكاميرا أعلى ربوة تطل على سهل، وتتأمل في الأماكن التي شهدت الأحداث، على صوت الأب- الراوي، أو لقطات بيروت في المساء قبيل الغروب، والشاحنات تقطع الطرق، ليس من خلال لقطات تسجيلية بل لقطات حية مصورة في الزمن المضارع لأناس مازالوا يعملون.
“الحوض الخامس” قطعة سينمائية بديعة، تمتلك ايقاعا خاصا، فيه الكثير من لحظات التأمل الشاعري والحزن النبيل، ولكن من دون مبالغة أو افتعال، وبعيدا عن كل النبرات العالية والمشاهد المباشرة الفجة. وهذا هو سر جماله.


إعلان