“ريتو بارغنو غوش” يتحدث عن أجيال السينما البنغالية

صلاح سرميني ـ باريس

تتكوّن شبه القارة الهندية من إتحاد ولاياتٍ لا يحكمها سلطةً مركزيةً واحدة، وتنتشر فيها أديان مختلفة، وعدد كبير من اللغات، وتساهم هذه العناصر بإفقادها تجانسها، وربما تكون “السينما” هي الوسيلة الوحيدة التي تمنحها هويةً وطنية، وعلى الرغم من تنوّعها، يحبّ الهنود سينماهم، ويفضّلون مشاهدة الأفلام الهندية أولاً، ويمنحون نجومهم قداسةً حقيقية، ويضعونهم أحياناً في مرتبة الآلهة.
و”السينما الهندية من الشمال إلى الجنوب”، فيلمٌ تسجيليّ طويلٌ فريدٌ من نوعه (بطول 168 دقيقة زمنياً) من إنتاج عام 2008، وإخراج الناقد السينمائي الفرنسي “أوبير نيوغريه” المُهتمّ بالسينمات الآسيوية، وبشكلٍ خاصّ، الهندية.
ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء يطغى عليها أسلوب التحقيقات التلفزيونية (المُقابلات الحوارية)، ولكن، تتجسّد أهميتها في الجانب المعلوماتيّ الذي تزخر به.
من الشمال إلى الجنوب، ومن خلال لغاتٍ كثيرة تنتشر على طول المساحة الجغرافية الشاسعة للهند، يحاول الفيلم أن يُعرّف الجمهور بسينماتٍ تمتلك كلّ واحدةٍ منها تاريخاً، ورسوخاً مختلفين تعكس ثقافاتٍ ثرية، وبنى اجتماعية متباينة.
يُجري الفيلم مسحاً شاملاً لمراكز الإنتاج الكبرى في الهند، ويقدم لمحةً عامّة عن سينما اليوم، ولكنه، يُثير أحاديث عن عظماء الماضي، أولئك الذين منحوا السينما الهندية اعترافاً دولياً، واحتراماً، وذلك من خلال مقابلاتٍ عديدة، ومفيدة مع مُبدعي الحاضر.
ويحمل الجزء الأول من الفيلم عنوان ” أجيال السينما البنغالية”، ويتضمّن حواراتٍ أجراها “نيوغريه” مع  شخصياتٍ فاعلة في السينما البنغالية، المهدّ التاريخي للسينما الهندية.

ولأنني أعرف مُسبقاً، بأنّ الشغوف بالسينما، الهاويّ، والمُحترف على السواء، لن يتسنّى له مشاهدته، فقد تخيّرت تفريغ الحوارات المُوزعة مونتاجياً على طول مدته الزمنية (55 دقيقة)، وجمعتُ تلك الخاصة بكلّ شخصيةٍ على حدّة بهدف تعريف القارئ بسينما مجهولة لم تأخذ حقها من الانتشار عربياً، وعالمياً، ماعدا بعض الأسماء المعروفة في تاريخ السينما البنغالية، ومنها المخرجيّن “ساتياجيت راي”، و”مرينال سين”، وربما عددٌ قليل جداً من المُهتمين قد شاهدوا أفلام : ريتابان غاتاك، آدور غوبالاكريشنان، غوتام غوس، ريتوبارغنو غوش، بوداديف داس غوبتا، أو ريتويك غاتاك.
وتعتبر هذه الحوارات المُتمركزة أساساً حول السينما البنغالية محاولة أولية لتوجيه الأنظار نحو السينمات الهندية (ومنها البنغالية) تلك التي ارتبطت دائماً في أذهان الناس بأفكارٍ مُسبقة، وتعالي، واستخفاف، مرتكزين في أحكامهم على بعض أفلام شاهدوها ماضياً، أو حاضراً، لا تعكس بالضرورة واقع، وتنوّع، وثراء السينمات الهندية .

ريتو بارغنو غوش (مخرج)

عندما كنتُ صغيراً، لم يكن مسموحاً لنا الذهاب إلى السينما، فقد تربيّنا في وسط عائلاتٍ محافظة جداً، وكنا نشاهد الأفلام في مناسباتٍ خاصة، الناطقة باللغة الإنكليزية بالتحديد مثل:
The Guns of Navarone (فيلمٌ إنكليزيّ/أمريكيّ من إخراج J. Lee Thompson، وإنتاج عام 1961)
King Solomon’s Mines (هناك فيلمان بنفس العنوان، الأول بريطانيّ من إخراج Robert Stevenson، وإنتاج عام1937، والثاني أمريكي من إخراج Compton Bennett، و Andrew Marton، ومن إنتاج عام 1950، وعلى الأرجح، الفيلم الثاني هو المقصود).
وكانت الأفلام الهندية بعيدة عن اهتماماتنا، لا اعرف السبب ؟
وكان يحقّ لنا مشاهدة بعض الأفلام البنغالية، لم تكن عائلاتنا المُحافظة تُعرّض أطفالها لمثل هذه الأمور الحياتية، كانت تعتقد بأنها سابقة لأوانها، لقد كان تفكيراً عاماً، وعندما بلغتُ الثالثة عشرة من عمري، ظهر التلفزيون في “كالكوتا”، وبدأ يقدم فيلميّن في اليوم، وهكذا اكتشفت السينما، وسرعان ما غرقتُ في عالمها، كنت أشاهد كلّ أنواع الأفلام، سيئة، أو جيدة، بدون تفريق، وسبحت في عالم الصور المتحركة.
بدأ والدي بإخراج الأفلام التسجيلية، وكان عمري وقتذاك 13 عاماً، وامتلكت الأفلام التسجيلية المُنجزة في تلك الفترة جانباً “منزلياً”، وكان والدي يمتلك “جهاز رؤية”، وكنت أجلس بجانبه أقطع اللقطات، أرقمها، وأضعها جانباً، وكنا نأكل في مكانٍ آخر، لأنّ والدي كان يستخدم طاولة الطعام لإنجاز عملية المونتاج، وهكذا، كنت أشاهد أفلاماً تُصنع في المنزل، وعندما كان والدي يعمل على سيناريو ما، ويحتاج إلى مساعدتي، نسخه على سبيل المثال، كنت أعود إليه، وأقترح عليه أفكاراً أخرى.
وفي كلّ مرة يفكر والدي بموضوع فيلم تسجيليّ، كنت أحوّله بدوري، وبطريقةٍ غير مُتوقعة، إلى فيلم روائي.
تعلمتُ كلّ التفاصيل التقنية، وكيفية السيطرة عليها، وذلك بفضل إنجازي لأفلام إعلانية تحتاج إلى الدقة، وتعلمت إتقان الجانب التقني من أجل صفاء، وتغليف، وتشطيب الفيلم، تعلمت ذلك من الإعلانات، لقد جاء عشقي للسينما من عائلتي، من أبي بالتحديد، وكانت تتملكني دائماً رغبة عنيفة بأن أحكي قصصاً، وحكايات.
تأثرتُ كثيراً بـ”ساتياجيت راي”، كان بالنسبة لي دليلاً، ومنبعاً كبيراً للتحفيز، ومشاهدة أفلامه حرضت بي الرغبة بأن أصبح سينمائياً، حواراته، تكويناته، بنائه، موسيقاه، طريقة مونتاجه، إخراجه، كانت بالنسبة لي بمثابة دفتر تمارين، عندما أخرجت فيلمي الأول في عام 1992، فيلم للأطفال The Diamond Ring (Hirer Angti)، وجد الكثير من المتفرجين في داخلي نسخةً من “ساتياجيت راي”، وتدريجياً، بدأت مشواري في مجال السينما، سلكت طرقاً متعرجة نحو أفلام أخرى، لم نتجه نحو الواقعية كما هي، ومن وجهة نظرنا اخترنا الواقعية الفاخرة التي حصلنا عليها عن طريق الجانب التقني.
يجب تحديد قرب الكاميرا، أو بعدها لسرد القصة بالضبط كما تريد أن ترويها، وضبط إيقاع سرعة شاريوه الترافليغ، ارتفاع الكاميرا، اختيار العدسة، إنها كلماتنا، وجُملنا من أجل سرد القصة، إنها العناصر الجوهرية التي تسمح ببناء آلية الحكاية، والتعبير في السينما.
ينتمي ساتياجيت راي، ميرنال سين، وريتويك غاتاك إلى نفس الجيل، وبعد حوالي 20 عاماً، وصل بوداديب داس غوبتا، غوتام غوس، آبارنا سين، وامتلك هذا الجيل الآخر تأثيراً فورياً علينا، وظهرت حركة جديدة في الهند، في تلك الفترة وصل اليسار إلى السلطة في البنغال، وأصبح الناطق باسم البروليتاريا، لقد تطورنا في حقبة كانت الأفلام تنجز خلالها عن طريق سينمائيين من المدينة حول الناس الذين يعيشون في الريف، الفلاحون الذين لا يمتلكون الأرض، ولم يكن يعني هذا شيئاً بالنسبة لنا ، كنا بعيدين تماماً عن ذاك الواقع، وأصبح هذا الموضوع موضة في السينما، في اللحظة التي صور “بوداديب داس غوبتا”فيلمه Grihajuddha في عام 1982، فيلمٌ في المدينة، وأخرجت “آبارنا سين” فيلم 36 Chowringhee Lane، فرضت سينما المدينة مكانتها، حساسية الناس المُقيمين في المدينة، كانت الأفلام تنجز دائماً عن طريق مخرجين يعيشون في المدن، وكان من الواجب التفكير بأسلوبٍ غير واقعيّ بشكلٍ كاملٍ بدون الوقوع في دهاليز الفيلم الموسيقيّ المُسيطر دائماً في الهند، ولكن، مزيجاً من الاثنين معاً، يمكن لنا الحديث عن واقعية هندية بدون نسيان التقاليد، ومبالغات السينما الهندية، وبالنسبة لي، فكرت بأن يكون الطريق الذي يتحتم عليّ بأن أسلكه .

لقد تغيرت مراحل الاقتصاد، وحتى قبل فيلم Chokher Bali في عام 2003، والذي قيل عنه بأنه فيلمٌ بميزانيةٍ كبيرة، ولكنني أعتقد بأن الكثير من الأفلام الحالية تمتلك تلك الميزانية، والفارق عن تاريخ إنتاج فيلمي ست سنواتٍ فقط، ومنذ العشر سنواتٍ الأخيرة، يبدو بأنني تجاوزت الميزانية المُقترحة ست مرات، لقد تغير الاقتصاد جذرياً بسبب نظام التوزيع، وحقوق التلفزيونات، وظهرت أسواق تمنح إمكانياتٍ جديدة، ومع ذلك، المُحصلة هي الآتي، لم يُسّهل ذلك توزيع الأفلام الأكثر استقلالية، اليوم، يتمّ توزيع فيلمٌ تجاري في السينما من التيار السائد ـ كما نرى في كلّ مكان ـ بنفس الطريقة، ويُعرض في نفس الصالات، وفي منافسةٍ مع غيره، ويشاهده نفس الجمهور، لا يوجد أيّ طريقة لتوزيع فيلم بشكلٍ مختلف، كلّ الأفلام التي تتشارك في نفس الدعاية معروضة في نفس الوقت، الواحد ضدّ الآخر، وهو صراعٌ غير متعادل، لقد صورتُ مع Aishwarya Rai باللغة الهندية فيلم  Chokher Bali في عام 2003 وRaincoat  في عام 2004،  ومنحاني إمكانية توسيع جمهوري، والتوّجه إلى أكبر عددٍ من المتفرجين، ببساطة، لأنها لغة محكية أكثر من البنغالية، ولكن، المشكلة في الهند بأنّ اللغات المحلية، واللغة الوطنية تنتميان إلى مناطق محددة ماعدا بعض المدن المُتعددة الجنسيات، حيث تختلط في “دلهي” اللغة البنجابية، والهندية، وفي “بومباي” تتعايش اللغة الماراتية، مع الهندية، والمجموعتان السكانيتان تتحدثان اللغتين بشكلٍ جيد.
الوضع مختلفٌ في البنغال، كانت العاصمة الإنكليزية الأولى، في البداية حصلنا على تعليم إنكليزي، البنغاليون فخورون بثقافتهم، لم يُسهلوا أبداً إدماج ثقافاتٍ أخرى، وبطريقةٍ ما، لم يتعوّدوا أبداً على التعبير بلغةٍ أخرى، ولهذا، فقد وجدوا صعوبةً في التواصل مع الآخرين، هناك مجموعات سكانية ثقافية مختلفة، ومتداخلة في البلاد، وتتوافق مع مجموعاتٍ عرقية متنوعة.

هامش : أحيلُ القارئ إلى الجزء الأول، والثاني من هذا الموضوع، وأنوّه إلى إعادة نشر المُقدمة في الأجزاء الثلاثة بهدف توضيح مصدر هذه الحوارات، والعلاقة التي تربط بينها.

http://doc.aljazeera.net/followup/2010/10/2010101191835767399.html
الثلاثاء 12 اكتوبر 2010 

http://doc.aljazeera.net/followup/2010/12/2010122865212711298.html
الثلاثاء 28 ديسمبر 2010


إعلان