يوميات النساء الوحيدات

طاهر علوان

امرأة ومكان ، علاقة تتشكل لترسم ملامح علاقة اشكالية يشكل المجتمع عنصرا فاعلا فيها …امرأة تحاول ان تتأقلم مع المكان الذي يحمل معه اسباب بقائها هي ولكنها تفيق على ذلك المكان وقد بدأ يتغير ويتحول في تحولات مضطردة لاتقيم وزنا كثير لرؤيتها ووعيها وكينونتها .لعله جدل سيستمر في كل مجتمع عن ذلك الوجود والكينونة لأمرأة تحاول ان تجد لنفسها مكان ومكانة تنشدها وتسعى اليها . وهنا تحضر الوثيقة السينمائية من خلال تلك النظرة البانورامية في رسم وتأطير صورة المرأة في ذلك المكان المتحول الذي تلاحقه الأزمات خاصة تلك التي تتعلق بمفاهيم الأفراد وطرق عيشهم .
واقعيا انها الأزمات التي ظلت تحف بالمرأة في كل مجتمع وظلت قاسما مشتركا لهموم النساء في كل مكان تقريبا ولجميع المستويات والطبقات والفئات الأجتماعية .
وستبرز هنا انماط العيش وحقوق النساء وواقعهن وطموحاتهن واهدافهن وهي تسير قدما نحو التحقق او الموت فثم اهداف تسير الى غاياتها واهداف لن تجد لها فرصة لأن تولد ولا ان تتحقق .
هذه العلاقة الأشكالية يقدمها فيلم ” 21 يوما قبل نوروز” للمخرجة الكندية ميشيل ماما وقد ذهبت الى واقع وحياة ومجتمع المرأة الكردية اليوم في كردستان العراق ، صورة المرأة الكردية التي واكبت الأنفصال شبه الكامل للأقليم عن البلد الأم العراق ابتداءا من العام 1991 رافقه وعي جديد بالذات والهوية يتذبذب صعودا وهبوطا بين الأنتماء لوطن اكبر هو العراق وبين الأنتماء للقومية فحسب .
وسط هذا يرث المجتمع الكردي تبعات الصراع العسكري واجواء الحروب التي شهدها العراق وخاصة ابان الحرب العراقية الأيرانية (1980-1988) ومارافقها من استخدام للسلاح الكيمياوي في ضرب بلدة (حلبجة) الكردية الحدودية المحاذية لأيران .
يبدأ الفيلم من ذكرى تأبين الضحايا وزيارة المدينة المنكوبة ومن خلال وجهات نظر النساء اللائي فقدن اعزاءهن في تلك الحرب المشؤومة ، الكل يروي قصصا عن القصف الكيماوي وصولا الى عرض متحف حلبجة وهو سجن كان يجري فيه تعذيب السجناء آنذاك.
من هذه الخلفية التي قدمت صورة شريحة نساء كرديات تأثرن بالحروب والصراعات سننتقل مباشرة الى يوميات المحامية (رزوى) ، هذه المحامية النشيطة المثقلة بهموم النساء في اقليم كردستان وحيث ترتفع نسبة النساء المنتحرات الى اعلى نسبة من بين كل محافظات العراق وحيث جرائم الشرف مازالت عرفا سائدا وحيث اعتبارات المجتمع العشائري مازالت  فاعلة بقوة في رسم حياة ومصير ومستقبل النساء هناك .
القصص المتتابعة للنساء هناك لاعلاقة لها بكل ذلك الماضي بل بحاضر يعلن الفيلم منذ البداية انه حاضر ومستقبل غامض …فحقوق المرأة مازالت موضع اخذ ورد وجدل وسجال …ومازالت النساء ضحايا العنف يشكلن ظاهرة بارزة وخطيرة في المجتمع الكردي  وحتى ظاهرة ختان الأناث التي تجد لها مكانا ولو على نطاق ضيق .
سجن النساء ميدا�� آخر لذلك الوضع المأزوم الذي تقصده رزوى لتؤكد حقيقة تلك الأزمة ،تلتقي نماذج من ضحايا العنف : المرأة الملاحقة باتهامات بالشرف من طرف زوجها واخوانها واعمامها الذي ينتظرون الأمساك بها لقتلها تضعها الحكومة المحلية في سجن للنساء بقصد حمايتها منهم ومن الموت الذي يتربص بها فيما هي لاتوقف عن ذرف الدموع على ابنائها الذين لاستطيع ولن تراهم مادامت ملاحقة بالقتل.
ظاهرة احراق الذات مأساة اخرى تتكرر وتقدم رزوى نموذجا من نماذج الضحايا ، فتاة شابة اخرى تقدم  على حرق نفسها ولكن يتم انقاذها بصعوبة بالغة لتبقى آثار الحروق على كل جسدها وقد تشوه وجهها وعنقها وصدرها.
يعرض الفيلم لصور متداخلة اذ تظهر صورة اخرى لحياة متحضرة ممثلة في الجامعات ومنها الجامعة الأمريكية في السليمانية حيث يتحدث المدرسون الأمريكان عن واقع التعليم وعن الفتيات الشابات اللائي يقومون بتدريسهن  وعن نبوغ بعضهن وهن  يتحدثن الأنجليزية يطلاقة ويتحدثن  عن حياتهن واحلامهن لتعلن اولئك الفتيات الطموحات في الأخير انه بالرغم من كل التطور السائد الذي بدأ بالظهور في الأقليم الا ان العلاقة بين الرجل والمرأة هناك كانت وماتزال تشكل معضلة اجتماعية فالأختلاط مازال محدودا والتضييق على حرية المرأة في الحياة مازال ظاهرة سائدة .

                                                  لقطة من الفيم ويسارا مخرجته ميشيل ماما

وعودا الى صورة المرأة في الحياة اليومية من خلال  رزوى المحامية الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة الكردية ضد العنف والأستلاب وضد جرائم الشرف تتلقى يوميا العديد من القصص المأساوية عن حياة اولئك النسوة  المعنفات والضحايا .
ومع رزوى وهي تعيش حياتها المعتادة مع زوجها الطبيب وابنتها ،وكلهم يعيشون في شقة ضيقة اعطتها لهم ادارة المستشفى التي يعمل فيها الزوج وهي تعيش يومياتها محافظة على اناقتها ومظهرها العصري ولكنها لاتتوقف من الشكوى من اوضاع النساء ومعاناتهن واستلاب حقوقهن من طرف الرجال المستبدين في عائلاتهن ولذلك تنخرط في نشاط فعال لمخاطبة السلطات لمساندة حقوق المرأة وايجاد التشريعات اللازمة التي تمنحهن الحق في حياة طبيعية آمنة ومتوازنة .
نتنقل فيما بعد  مابين مدن (حلبجة) ثم (السليمانية ) ثم ( اريبل ) وحيث تعيش رزوى في اربيل عاصمة اقيلم كردستان ونتنقل معها في شوارع المدينة وساحاتها ومحلاتها التجارية وانماط الحياة فيها وكلها توحي بحياة متفتحة وعصرية الا ان ظلالا قاتمة مازالت تلقى على وجود وحياة المرأة الكردية هناك.
ومع تراكم المشكلات التي تتصدى لها رزوى وزياراتها المتكررة لسجن النساء لمتابعة قضايا النساء السجينات وبعضهن لسن بسحينات بل وفرت لهن السلطات ملاذا آمنا في داخل السجن لحمايتهن من ملاحقة الأزواج او الأخوة او الأقارب ولهذا تسمع نحيبا وعويلا من طرف اولئك النساء السجينات وهن لسن مذنبات وبينما السجن هو نوع من الحماية ولكن الى متى وما هو الحل ؟.
ليس هنالك من حل في متابعة المجتمع الصغير الذي يلاحق تلك النسوة وان اخطأن فكل شيء ساكن وجامد.
اعتمد الفيلم على تلك العلاقة بين الشخصية والمكان وتنقل بين الشخصيات النسائية في المدن الثلاثة ، فنساء حلبجة يحملن معهن الماضي الأليم ونساء السليمانية ينتظرن عالما فسيحا من الأمل والحرية في ظل مناخ ثقافي عرفت به المدينة ونساء اربيل منهن رزوى ونزيلات سجن النساء و ضحايا العنف والأنتحار وحيث ظاهرة احراق الذات ماتزال تشكل قلقا اجتماعيا كبيرا وقلقا لدى السلطات ولدى المنظمات الدولية ايضا.
من خلال ذلك كانت المقابلات مع النسوة في الأماكن الثلاث انعكاسا لذلك الواقع الأجتماعي الأليم الذي عشنه مع كل التقدم والمساعي القائمة لحل كثير من الأشكالات والنهوض بواقع المرأة الكردية الذي تقوم به السلطات ومنظمات المجتمع المدني ، لكن القصة لاتتوقف بالنسبة لرزوى عند هذا الحد فهي بسبب تكرار التراجيديا اليومية تكون قد وصلت الى نتجية مفادها ان لاشيء من حولها يتغير بالنسبة لواقع حياة ومستقبل المرأة وحقوقها ولهذا فأنها تكرر القول انها ليست قلقة على نفسها بل على مستقبل ابنتها  وكيف ستعيش وتحت اية ظروف حتى تتحول مشاهد السجن والنساء اللائي احرقن انفسهن الى كابوس بالنسبة لها بالرغم من كل جهودها للتخفيف من المعاناة ولهذا لاتجد امامها من خيار سوى مغادرة اقليم كردستان واخذ زوجها وابنتها بعيدا الى ارض اخرى والى بلاد اخرى ، تقول انني مظطرة لفعل ذلك والهجرة الى كندا لأنني لااشعر بالأستقرار الأجتماعي الذي ابحث عنه ولا بشكل الحياة التي اتطلع اليها وماان يحل الحادي والعشرين من مارس آذار وهو العيد التقليدي للشعب الكردي او النوروز او عيد الربيع حتى تكون رزوى قد اقامت احتفالها الخاص بمغادرة ارض الأقليم الى ارض  اخرى.
البانوراما العريضة التي قدمها الفيلم شكلت ملامح مجتمع نسائي ينطوي على اشكالياته الخاصة التي بدت اكثر موضوعية وصدقا في طريقة العرض فهو فيلم عرض للحياة اليومية وتحدثت فيه النسوة عن احلامهن واهدافهن والامهن ومعاناتهن واكتنز الفيلم بحصيلة وثائقية انسانية مميزة لذلك الواقع .
………………………….
الفيلم الفائز بالجائزة الثالثة في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية – مهرجان بغداد السينمائي الدولي -2011


إعلان