المخرج الفرنسي بيار شوندورفر: هاجس المعاني الكبرى

 
باريس- ندى الأزهري

انطفأ في باريس منذ أيام وجه من الوجوه السينمائية البارزة.
 بيار شوندورفر قضى عن عمر ناهز الأربعة وثمانين عاما. هذا المخرج السينمائي الكاتب والعضو في أكاديمية الفنون الجميلة، الذي أرسى دعائم مهنته من خلاصة تجاربه المعاشة: حياة البحارة ثم حرب الهند الصينية، وظل مخلصا لهذا التوجه حتى النهاية، حقق سبعة عشر فيلما (ثمانية قصيرة ومتوسطة وتسعة طويلة) كان أشهرها” الفصيلة 317″ الحائز على جائزة السيناريو في مهرجان كان 1965 و”السرطان- الطبل”  الذي حصد الجائزة الكبرى للسينما الفرنسية عام1977.
شخصيات البحارة والجنود التي لازمت كل أفلامه، لم تكن إلا تعبيرا صادقا عما خبره في الواقع. هو الذي قرر في عمر الرابعة والعشرين ان يصبح سينمائيا دون ان يكون قد درس ما يؤهله لذلك. لكنه مع إدراكه لانعدام فرصته في الانتساب  للمدارس السينمائية الكبرى, قرر الالتحاق بالقسم السينمائي التابع للقوات الفرنسية المحاربة في الهند الصينية(1952-1954) كمصور للجيش. كانت المؤسسسة العسكرية أعلنت عن توظيف سينمائيَ حرب سيكلفون بتصوير الجبهة لتُضم تسجيلاتهم إلى المحفوظات التاريخية (الأرشيف)، فتطوع وتلقى دورة تدريبية قصيرة قبل ذهابه إلى الهند الصينية. هناك، سيشارك شوندورفر في أشرس المعارك وسيصاب ويؤسر بعد المعركة الأسطورية التي دامت 170 يوما في “دين بين فو”Dien Bien Phu. و سيطلق سراحه بعدها، ليقرر عام  1956 تكريس جلَ وقته للكتابة وتحقيق الأفلام. اعماله كلها، ستكون تأملا عميقا في المعاني الكبرى: التضحية، الشرف، إخوة السلاح و هؤلاء الذين فقدوا الأمل، الحرب غير المجدية…لكن التي لم يكن بالوسع التقاعس أمامها او التخاذل.

يكمن إبداع شوندورفر الأسلوبي، هو الآتي من الفيلم التسجيلي، في عدم التخلي عن التسجيلي حتى في الروائي. إنه لا يبدي سوى العوالم التي عرفها عن قرب، وأفلامه عن الحرب هي لجندي حارب أو حمل الكاميرا في قلب المعركة، إنها ليست إعادة بناء هوليوودية لمخرجين لم يسبق لهم سماع أصوات الانفجارات سوى حين تصنعها ايادي أخصائي التأثيرات الجانبية. من هنا، الواقعية القصوى لأعماله حيث ينتفي أي غرض بالعرض لمجرد العرض، ففي الحرب نشعر بالملل غالبا، لانرى العدو إلا نادرا، ولا نلقى حتفنا بأسلوب مسرحي إلا قليلا، هذا ما يشهد عليه من خاض تلك التجارب وما تعبر عنه أفلام شوندورفر كما لم يفعل أحد، كما يؤكد هؤلاء.
أما بالنسبة لناقد، فإن أعمال هذا المؤلف السينمائي الكبير، تطرح بطرق خلاقة مبدعة السؤال القديم عن العلاقة بين التسجيلي والروائي، وأيضا السؤال عن العلاقة بين الأدب والسينما. في الواقع فإن بيار شوندورفر كان روائيا كبيرا أيضا وعدة من أفلامه كانت أولا روايات. على سبيل المثال ” السرطان-الطبل” الذي نال الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية، خرج بنسخته السينمائية سنة بعدها و فيلمه الأخير” هناك- في الأعالي” الذي صوره في 2004، سبقته رواية حملت نفس العنوان ونشرت في 1981.
أما “الفصيلة 317” التي نشرت في 1963 وباتت فيلما سينمائيا سنتين بعدها، فهو فيلمه الأكثر شهرة والذي أبدى فيه نظرته الخاصة على حرب الهند الصينية.  في خضم المعركة المصيرية “دين بين فو” في ماي 1954، توجه أوامر الانسحاب للفصيلة 317 لتتجه نحو الجنوب. كل ما تواجهه  الفصيلة المكونة من أربعة فرنسيين وأربعين لاوسيا من هجوم شرس يستهدفها( من الفيتناميين)  وطبيعة قاسية تتحكم بتحركاتها وخلافات عميقة تفرق بين أفرادها، صوره شوندورفر كما عايشه بدون خطب أو مواعظ ودروس أخلاقية.

حين الإعلان عن رحيله كان لافتا هذا التكريم وهذا الاجماع من الصحافة الفرنسية على مكانة شوندورفر. اجماع يأتي، كما يحصل في العادة، بعد موت الشخصية. لاسيما شخصية كتلك “تناستها” بل تجاهلتها في السابق، صحافة كانت ترى في اهمال هذا المؤلف الأدبي والسينمائي وعدم رؤية أفلامه أسلوبا عمليا لابداء استنكارها مما اعتبرته أفكارا “غير لائقة” سياسيا في أعمال شوندورفر. فالتحدث عن شرف الجندي ولاسيما في سياق الحروب الاستعمارية لم يكن موضوعا مسموحا به حينها لدى اليسار الفرنسي. لم يشعر شوندورفر بالحاجة إلى الشرح يوما ولكن جينيريك النهاية لفيلمه الشهير عن معركة “بين دين فو” الذي حققه عام 1992، يركز في الصورة الأخيرة التي بقيت طويلا على الشاشة على عبارة شكر لجيش جمهورية فيتنام الشعبية، الذي وبعد أربعة عقود من المعارك، وفر الوسائل التقنية لتحقيق هذا الفيلم في فيتنام. بعد الشكر تأتي تمنياته الحارة للشعب الفيتنامي. فهل حصل هذا إلى الآن في اي جنيريك لفيلم أمريكي مكرس لحرب فيتنام؟
هذا النقد الذي كان مهتما بالسياسة أكثر منه بالفن حين تطرق لأفلامه ايديولوجيا، تأخر بالاعتراف بهذا الفنان أحد كبار سينمائي العصر، لكن أكاديمية الفنون الجميلة لم تبد الحذر نفسه، فقد انتخبته تلك المؤسسة العريقة التي تأسست عام 1648 عضوا فيها عام 1988 ثم جعلته رئيسها عام 2007.
لعل بمقدورنا اليوم أن نتخيل أن بيار شوندورفر لم يلتحق “هناك- في الأعالي” بمشاهير الأكاديميين وإنما برفاقه الشباب الذين قضوا في الحرب.


إعلان