“أفيون المانحين”.. أموال أوروبية تخدر عصب الاقتصاد في ظل الاحتلال

قالوا قديما “الدين أفيون الشعوب”، وحديثا يقولون “كرة القدم أفيون الشعوب”، لكن المعادلة في فلسطين مختلفة كما يبدو، فهي الدولة المحتلة الوحيدة التي لا تعاني من لوثة في تدين مواطنيها، وكذلك لم تصل حد الهوس الطاغي بكرة القدم، والمؤكد بحسب المخرجين الفلسطينيين مريم شاهين وجورج عازر هو أن “التمويل الغربي هو أفيون القضية الفلسطينية”.

إحقاق السلام وبناء الدولة.. دعم يكرس الاحتلال

يأتي الفيلم الوثائقي المسمى “أفيون المانحين” (25 دقيقة) متصديا لكشف تلك الحقيقة التي يدركها الفلسطينيون ويعيشونها بجميع تفاصيلها، فمنذ ما لا يقل عن عشرين عاما وحتى الآن عمد المجتمع الدولي المانح إلى دعم الفلسطينيين ماليا، وذلك لبناء مؤسسات وتطوير البنى التحتية، ودعم الاقتصاد، وسداد رواتب موظفي القطاع العام، ودعم قطاعات الصحة والتعليم، إضافة إلى دعم كبير لغالبية مؤسسات المجتمع المدني، من أجل تنفيذ مشاريع حول تنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، وغير ذلك من المجالات.

الهدف من هذا الدعم غالبا ما تمثل في إحقاق السلام وبناء الدولة، لكن النتائج على الأرض خالفت ذلك، وتمخضت عن إضعاف الفاعلية السياسية للشعب الفلسطيني وتشظي قواه الفاعلة لدرجة التدمير والتخريب.

يتناول الفيلم الملف المهم بالنسبة لفلسطين وقضيتها، وهو المال الذي يستحق وصف “أفيون”، أو مخدر حقيقي للفلسطينيين، فهي أموال لا تعمل على إنهاء الاحتلال بل إلى تكريسه، طالما إنها لا تتناقض مع مسبباته وتحاول أن تتساوق معه.

طوابير العاطلين.. معونات أوروبية تفسد حقول الزراعة

يأتي الفيلم محاولا بحث الأمر من جذوره، وهو في سبيل ذلك يذهب بنا إلى حكاية المزارع عبد المعطي ياسين (60 عاما)، فتظهره الكاميرا راكبا السيارة متوجها من قريته “ياسوف” إلى مدينة سلفيت، ليحصل على معونة قدرها 300 دولار، يتلقاها من الاتحاد الأوروبي كل ثلاثة شهور.

أمام البنك في سلفيت نجد المواطنين العاطلين عن العمل يصطفون في انتظار أدوارهم، للحصول على المعونة التي جعلت 80 ألف فلسطيني أشبه بالشحاذين، والسبب هو سياسات الاحتلال بالضفة الغربية التي لا تثمر معها كل أموال الدعم الغربي، رغم أنها قد وصلت 9 مليارات دولار خلال الأعوام 1993-2004، وذلك لكونها لم تتجه صوب قطاعات تدعم تنمية حقيقية في المناطق المحتلة.

ترصد الكاميرا مشاهد متنوعة، وتضعنا في جوهر الفيلم الذي يرصد تحولات المواطنين وحياتهم، فبعد أن كانوا مزارعين يمارسون حياتهم، ويجنون قوت عيالهم، ويصدرون لدول عربية شقيقة؛ فقد أصبحوا مواطنين منتظرين لأموال البنك الدولي والمؤسسات الدولية المانحة.

المزارع عبد المعطي ياسين الذي يلتقى معونة من الاتحاد الأوروبي كل ثلاثة شهور

لقد شهد قطاع الزراعة مجموعة من التحولات في فلسطين، بسبب تهميشه من السلطة وأموال الدعم، ويظهر ذلك على ألسنة الخبراء الذين يفسرون للمشاهد العادي ببساطة حجمَ تلك التحولات، وكيف أفسدته أموال الدعم، وليست المنطقة الصناعية في مدينة جنين -التي جُرفت آلاف الدونمات لأجلها، وأصبحت بورا منذ 17 عاما- إلا نموذجا على ذلك.

استمرار التمويل.. ابتزاز يمارسه الممول على مجتمع منهار

انطلاقا من الزراعة يتداخل بنا الفيلم، فيتحدث عن المجتمع المدني الذي انهار بين خلق “ثقافة الأنجزة” المرتبطة بمؤسسات المجتمع المدني، وخلق طبقة معولمة ورأسمالية، وثقافة التطوع التي ضربت من جذورها، وينتقل إلى تحولات المجتمع الفلسطيني عموما، فقد نشأ فيه ما يعرف بـ”مجتمع الاستهلاك”، وازدهر فيه خلق النماذج الخادعة، مثل نموذج مدينة رام الله المزدهرة التي تعتبر تمويها لحال البلد المحتل والمحاصر بكل تفريعاته، ثم يصل إلى حال المرأة التي ضعفت مشاركتها السياسية كثيرا.

كما يجول الفيلم في حجم الإنفاق الأمني الذي يفوق 30% من حجم أموال المساعدات الغربية، ويتساءل الخبراء عن مبررات ذلك في بلد تختفي فيه القطاعات الإنتاجية وتضمحل، ثم ينتقل إلى حال الوطن المثقل بالديون بفعل سياسات الإقراض الاستهلاكية، وأثر كل ذلك على الموقف السياسي من القضايا الفلسطينية المصيرية، وما يترتب عليها من ربط استمرار التمويل وتدفق الأموال بالابتزاز السياسي.

مشاهد الواقع ومقابلات المختصين.. مزيج الصورة والفكر

يقوم بناء الفيلم الوثائقي التلفزيوني على مجموعة من المقابلات القصيرة مع مجموعة من الخبراء وأهل الاختصاص، فيأخذنا إلى هؤلاء عبر لقطات مُقرّبة، وكأن الكاميرا تؤكد على دقة الجُمل المختارة، لتكون طريقا سلسا لفهم هذا الموضوع المعقد الذي يصلح أن يكون مؤتمرا علميا طويلا، أو عنوانا تؤلف فيه الكتب الاقتصادية والسياسية.

تلك المقابلات القصيرة والدقيقة تبدو كأنها محاصرة بإطارات ضيقة منتقاة بعناية، فقد أُثّث التعليق الصوتي على الفيلم بمجموعة من الصور والمشاهد من الضفة الغربية وقطاع غزة، منها مشاهد فيها عمالة فلسطينية، مزارعون فلسطينيون، حراثة أراضٍ، سيارات عسكرية، حواجز وغيرها، وهي رغم عدم طزاجتها حققت الهدف المنوط بها، ونقلت المشاهد لموضوع الفيلم.

يذهب الفيلم أيضا إلى الأماكن التي يتحدث عنها، فنراه يحضر لنا لقطات من مدينة جنين، حيث الأراضي الزراعية التي حولت بؤرا، على أمل إنشاء منطقة صناعية فلسطينية إسرائيلية مشتركة يسيطر عليها الاحتلال كليا، كما يعاين الوضع في غزة المحاصرة، وشوارع المدن الخارجية التي تسيطر عليها قوات الاحتلال.

كما أجرى الفيلم مقابلات متخصصة مع مجموعة من الخبراء، مثل خليل نخلة الخبير التنموي الذي قدم كتاب “فلسطين وطن للبيع”، وليندا طبر من جامعة بيرزيت، وإياد الرياحي من مركز بيسان للدراسات، وهي أصوات بحثية مستقلة، وقد عمقت رؤية الفيلم الفكرية. ويأتي التعليق الصوتي رابطا جمل المصادر مع نص متقن طارحا الأسئلة الشائكة التي يتصدى لها بالإجابات القاطعة.

ضعف التمويل.. رؤية أحادية تفسد موضوعية الفيلم

كان الفيلم منحازا إلى اتجاه محدد يسعى إليه، فغاب عنه حضور شخصيات رسمية فلسطينية تعلق على ما يقدمه من أطروحات، وكذلك أصوات الطرف الغربي من ممولين ودول مانحة، وهو ما يجعله فيلما يحمل موقفا ورؤية محددين، أكثر من كونه يعرض القضية بكافة المواقف حولها.

وقد نتفهم ذلك رغم عدم تقبلنا له، بسبب الميزانية المتواضعة التي أنجز بها الفيلم، ونحن على يقين أنه لو رصدت له ميزانية سخية لخرج أكثر تكاملا وأكثر تشويقا من ناحية بنائه الفني.

ملصق فيلم “أفيون المانحين” لمخرجيه مريم شعث وجورج عازر

ومع أن هذا الفيلم القصير أو المتوسط لا يمتاز بميزانية عالية ولا بمقاربة فنية مشوقة لموضوعه الذي يتصدى له، فإنه يحمل بين طياته هما ومأزقا مؤرقا لا يمس حياة البشر فقط، بل يطال قضية مركزية بالنسبة لكل العالم الحر.

قبس مضيء في ليلة دامسة.. تنفيس ساخر

رغم أن الفيلم كان ضعيف الميزانية، فإن ميزانيته تطرح أمامنا سؤالا آخر عن الممول، فكيف لفيلم ينتقد سياسات التمويل من الغرب أن يُموَّل من مؤسسة غربية تعتبر جزءا من مؤسسات التمويل الغربية، وهي مؤسسة “روزا لوكسمبورغ”؟ وهي مؤسسة ألمانية تلتزم بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية، وترتبط بحزب اليسار الألماني، وتتلقى التمويل من الحكومة الألمانية.

ويمكن رد ذلك إلى طبيعة المؤسسة تارة، وكونها جزءا من نظام يسعى إلى خلق تنفيسات داخله.

الفيلم هو “حلمة” إلهاء للفلسطيني وتنفيس عنه، بدلا من وقفة جادة تجاه سياسات التمويل والموقف من الاحتلال الإسرائيلي، أو كأنهم يقولون مبتسمين لنا “حسنا، هل ستتوقفون عن بابنا في نهاية الشهر، لقد استمر سيلان المال”، وذلك بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور عادل سمارة.

الفيلم في ضوء ذلك نراه مشروعا لفيلم وثائقي أو لسلسلة أفلام وثائقية نأمل أن نراها قريبا، بحيث تتصدى لتلك الظاهرة التي يتلمسها المتابع في فلسطين، وما تحتاجه هو مخرج يحمل رؤية يتمكن منها، ويقدم للجمهور وعيا مضاعفا حول مسألة التمويل التي أصبحت بمثابة أفيون حقيقي لا يحقق سلاما اقتصاديا، بل يكرس احتلالا أبديا.

في إحدى مشاهد الفيلم يظهر الحاج الستيني عبد المعطي ياسين قابضا مساعدة الاتحاد الأوروبي، ومتجها يفتح باب السيارة التي ستحمله إلى منزله، نسمعه يئن قائلا “أخ يما يا ظهري”. يبدو ذلك الوجع والأنين واقع فلسطين الحاضر، رغم كل الأموال التي تغدق على هذه البقعة الصغيرة، فاعلة فيها كل ما من شأنه إضعاف البشر والأرض والحجر.


إعلان