خمس كاميرات محطمة لحلم مكسور
طاهر علوان
في الأزمات ، في الأزمنة المحتقنة التي تنضح بالمعاناة ، ليس غير العين الراصدة والشاهد الجريء الذي يقرأ واقعا ما . والكاميرا العين في السينما الوثائقية ظلت حتى اليوم هي الشاهد الأمين على خراب الواقع واشكالياته وتعقيداته بسبب قربها من نبض الحياة .
وعلى هذا صارت الكاميرا / الشاهد وازمات البشرية صنوان يكملان بعضهما البعض، الناس في نهمها الفضولي ونزعتها لأن تعرف وتعلم بحاجة الى تلك العين الراصدة التي بإمكانها الاحتفاظ بالحقيقة الدامغة واثرها الصادم.
واحيانا ما تكون الأزمة خاصة بإنسان يقرأ الواقع على طريقته ، وكذلك حال الشاب عاشق الكاميرا الفلسطيني “عماد برناط” الذي كانت هوايته منذ زمن توثيق ما يراه بكاميرا للهواة ولم يكن في قرارة نفسه انه معني بتقديم فيلم وثائقي يراه العالم كما حصل فيما بعد.
ظل عماد زمنا وهو يراقب بعين كاميرته فعاليات الجيش الإسرائيلي المتواصلة سواء في ملاحقة وقتل الفلسطينيين او في تجريف اراضيهم او في اعتقال المتظاهرين او الذين تتهمهم بالمساس بأمنها .
وهكذا وجد عماد برناط ان كاميراته التي تمتلك نبض الحياة كان يتم اغتيالها واحدة بعد الأخرى عندما كان الاحتلال يحطمها له حتى بلغ عدد الكاميرات المحطمة عنده خمسا وكل كاميرا كانت شاهدا على حقبة من الاحتلال وهو الذي كان يتتبع يوميات قريته الوديعة بالقرب من رام الله وهي تدفع اثمان المواجهات .

الأكثر طرافة في القصة ان كل كاميرا من كاميراته كان اغتيالها مرتبط بولادة ابن من ابناء عماد الذي قرر ان يصنع من هذه القصة فيلما وثائقيا بمشاركة الناشط اليساري الإسرائيلي دافيدي المعارض لممارسات الاحتلال التعسفية واعمال القتل والتشريد التي يمارسها ومن خلال جدار وممارسات الفصل العنصري .
طاف الفيلم “خمس كاميرات محطمة” لهذين المخرجين العديد من المهرجانات واتيح لي مشاهدته في اثناء انعقاد مهرجان امستردام للسينما الوثائقية الأخير في دورة هي من ارقى دورات المهرجان تنوعا وتنظيما ثم استضافت ادارة المهرجان المخرجين في ندوة مفتوحة مع الجمهور ضمن فعاليات المهرجان .
ما يلفت النظر في هذا الفيلم هو الاستخدام البسيط والعفوي لسرد الأحداث وهو عنصر جمالي شدني شخصيا من خلال قيام المخرج برناط برواية المجريات من خلال ” voice over “.
تمر ��نوات والدراما تمضي الى منتهاها وكلها تواكب ما سترصده كاميرا عماد من تعسف وظلم فاق كل الحدود ضاربا بعرض الحائط كل القيم لكن ما يلفت النظر وفيما عماد برناط يروي الوقائع ان كل حدث كبير شهدته القضية الفلسطينية من مثل اتفاقية اوسلو او اقامة جدار الفصل العنصري او غير ذلك كان يصادف وقوعه تحطيم كاميرا وفي نفس الوقت ولادة احد ابناء عماد فأبناؤه محمد وتقي الدين وجبريل كل واحد منهم ارتبطت ولادته بتحطم كاميرا وبواقعة جديدة وهي معالجة ملفتة للنظر لجأ اليها المخرج في ربط الحدث الفلسطيني بواقعة تحطم الكاميرا .
انها شهادات تنبض بالواقع الحي وتفجرات الصراع ، وحيث يرصد عماد شخصياته بهدوء ويتابع ردود افعالهم وبين الحين والآخر يجد الجميع انفسهم في مواجهات جديدة مع قوات الاحتلال .
ولعل من الملفت للنظر هي تلك الطبيعة السردية التي ميزت الفيلم في تنقله بين اكثر من حقبة زمنية في عرض كرونولوجي مختلف ومميز ..ويمكن هنا حصر عدد من المقتربات الملفتة للنظر في هذا الفيلم :
– اتخاذ الواقع الفلسطيني منطلقا وحيث لم يغرق الفيلم في تفصيلات ذلك الصراع طويل الأمد والمتشعب مع سلطات الاحتلال وحيث اوجد الفيلم معادلا موازيا من خلال قراءة حياة عدد من الشخصيات وتتبعها .
– الكاميرا – العين – الشاهد هي الخلاصة المهمة التي اسسها الفيلم والتي قادت الى غزارة تعبيرية في المادة التسجيلية .
– اتخاذ بدائل موضوعية في عرض القصص وذلك من خلال التنقل بين الأماكن المختلفة كرصد جوانب من الحياة لليومية .
– تطوير السرد الوثائقي الى مستوى محاكمة الأحداث واعادة قراءتها والخروج من دائرة المعلومات المكررة التي جرى عرضها في العديد من الأفلام الوثائقية التي عالجت القضية الفلسطينية .
تدب الحياة في بلعين ، على تخوم رام الله، كل شيء على عهده وسيرته عبر الزمن ، الناس ، البيوت ، وجود اشجار الزيتون ، المتظاهرون السلميون ، الا ان الشيء الاستثنائي الذي سيغير خارطة الأشياء وايقاع الحياة هو قدوم الجرافات وبنادق جنود الاحتلال لكي تصنع سيرة اخرى ، تجريف اراض وانشاء مستوطنات للمتطرفين وفيما القناص يستهدف كاميرا عماد برناط وهو يردد في المؤتمر الصحفي في مهرجان امستردام : ” هذه كاميرتي ، انها هي التي كانت تحميني ” ..
صوت مفعم بالشجن هو صوت عماد الذي تحول عنده الفيلم الى كينونة كاملة ملتصقة به ومتداخلة مع حياته فهو وتلك الكاميرا – العين الشاهدة صنوان وهو يرى في تلك الكاميرا الشاهد علامة من علامات التاريخ لأنها جزء من وقائع وحياة .
الوثيقة الفيلمية هنا تحاول ان تقرأ الظواهر بالاقتراب الحميمي منها ، لا التعليق عليها من الخارج وكذلك التداخل مع الأحداث والشخصيات والانفتاح على الواقع ، انها شهادة موضوعية لا تتعدى ذلك الى خطاب سياسي او اعلامي بقدر ماهي فكرة انسانية تتوازى مع تلك الوثائقيات التي كرست للموضوع الفلسطيني ولكنها تصنع مسارا خاصا اكثر حميمية وتفاعلا مع الشخصيات والأماكن والأحداث .

الزمن الفيلمي والحقيقية الوثائقية تتلاقيان في صنع تلك الخلاصات التي نبحث عنها ولهذا يطمئن المشاهد من اية جنسية كان وفي اي مكان انه يشاهد قصة وثائقية فيها طرفا صراع معلومان في كل مكان لكن الفارق في هذه القصة انها تعزف على وتر انساني ويوميات عادية تفضح تداعيات واقع مأساوي بحس نقدي وانساني في آن معا .
ولعل الجانب الآخر للموضوع هو التفاعل مع كل شخصيات المحيط الجغرافي ، حتى لحظات الأعتقال وتلك الوجوه التي لا ترتعب وهي تواجه الجلادين ، لأنها الحياة ، يجب ان تسير الى مداراتها وغاياتها وكذلك الشخصيات المطمئنة التي ترى ان حياتها اكبر من ان توقفها او تشلها فعاليات الاحتلال .
كاميرا عمار برناط هي كاميرا حية ونابضة يغلفها حزن مرير فيما تلتقطه وكذلك في نبرة التعليق على الأحداث والوقائع المليء بالشجن والأسى ولكن من دون بكائيات ولا صراخ ولهذا تجد ان ثمة مساحة واسعة اتاحت له عرض موضوعه من زوايا متعددة ولك من دون ان يفقد المنطلق والزاوية التي انطلق منها في رسم صورة اخرى لواقع متفجر ومأساوي ولكن برؤية انسانية مميزة..