“صالح بن يوسف.. جريمة دولة”.. رواية أخرى تفضح تاريخ المنتصرين

تجعل معطياتٌ عدة فيلمَ “صالح بن يوسف.. جريمة دولة” حدثا جللا وضوءا يسلّط على صفحة من تاريخ تونس، أريد لها أن تُحشر في المناطق المعتمة، فلمّا كانت كتابة التاريخ الرسميّ حكرا على المنتصرين، وكان نصيب صالح بن يوسف الهزيمة في معركة الزعامة ضدّ بورقيبة؛ ظل ذكره بياضا يحظر على المتقبّل تحبيره أو الجهر بذكره، وظل الضمير السياسيّ التونسيّ يتحاشى الخوض في طرح حدث اغتياله، فيتواطأ الجميع بالصمت لأن كلامهم سيكشف عجزهم عن مواجهة القاتل.

ولئن عاد رفاته إلى أرض الوطن بعد سقوط بورقيبة، وكان قد دفن في مصر، فإن هذه العودة كانت دعاية لنظام زين العابدين بن علي أكثر مما كانت تقليبا للصفحات المنسيّة، فحكم بن علي إنما هو استمرار لحكم بورقيبة، والأجهزة القائمة عليه والمرسّخة له ضالعة في اجتثاث اليوسفيّة وفي التنكيل بهم.

لكن التحدّي الذي يواجه عملا سينمائيّا بهذا السبق جللٌ بدوره، فالوثائق البصريّة التي يقتضيها الفيلم عزيزة، بسبب حرص الجاني على طمس معالم جريمته وشطب الضحية من التاريخ الحديث، والجرح -رغم تقادم العهد به نسبيّا- يظل غائرا في المشهد السياسي ينتزع مناوله من حياده. والحال أنّ الدراسة السينمائيّة الوثائقيّة تصادر على موضوعيّة الطّرح وتقتضي في آن وجهة مّا مختلفة جماليّا أو فكريا في معالجة المسألة.

جماليات إعادة التشكيل.. رسم مشهد يعلم الجميع حقيقته

رغم التّعتيم الذي مارسه نظام بورقيبة على حدث اغتيال يوسف بن صالح، فقد ظل التونسيون يتداولون مشافهةً مراحلَ هذه الجريمة وتفاصيلها الدقيقة، فيذكرون أنّ بورقيبة نسفه، وهذا لم ينكره في مجالسه الخاصة، فضلا عن كونه وسّم منفّذيها.

هذا ما يجعل جهد المخرج لإعادة صياغة الأحداث والبحث عنها في شهادات رفاق بن يوسف أو عائلته أو اعترافات أعضاء نظام بورقيبة وفي كتب المؤرخين؛ استنزافا للجهد، في إعادة تشكيل للمشكل أصلا في الذّاكرة الجمعيّة، بداية من نشأة صالح بن يوسف في جربة بين تنوع ديني ومذهبي يجمع الإسلامي إلى اليهودي والسني إلى الإباضي، ودراسة مزدوجة في تونس العاصمة تنهل من الأصالة نهلَها من الحداثة، وانخراط في النضال ضمن الحزب الحر الدستوري، ثم ضمن الحزب الحر الدستوري الجديد.

وقد قاده هذا الانخراط في نهاية الثلاثينات إلى تبوأ الصدارة من المشهد السياسي، ثم إلى الاستحواذ على مكانة بورقيبة في الحزب وفي القلوب، وهذا ما أشعل شرارة معركة زعامة بينهما انتهت بمقتله في صيف 1961 في فرانكفورت، على أيدي رجال غريمه السياسي.

لقد غدا الربط العضوي بين شهادات كثيرة تُقسّم إلى لبنات كثيرة في شكل ضفيرة تشخّص قصّة الاغتيال؛ أقربَ إلى لعبة المربكة التي تقصر مهارة اللاعب على إعادة تشكيل مشهد قائم سلفا، ومحاكاة نموذج جاهز من خلال مئات القطع والجزيئات، لتصبح متعة الفرجة منحصرة في رصد مهارة المخرج وهو يعيد بناء الوقائع ويصوغ الزّمن، خلافا لمعهود الوثائقيات التي تشكّل مشهدا جديدا، أو تقدّم وجها مخفيا من الحقيقة ورؤية مختلفة لها لا ندركها بغير عيون مبدعة.

ندرة الموارد البصرية.. مجال واسع لإبداع الخيال الإخراجي

ينضد الفيلم معطياته وفق بناء حجاجي مداره على فكرة تؤكد أن “اغتيال صالح بن يوسف جريمة دولة”، وسيرورة تستدلّ عبر عرض الأحداث والوثائق والشهادات ومقاربات المؤرّخين على تكريس الدولة إمكانياتها لتصفية أحد مواطنيها، ممن كانت لهم أيادٍ بيضاء على استقلالها، وعلى استنتاج يسلّم وفق نبرة تأثيريّة بأن الجريمة عمل غير أخلاقي، يزيده غدر التونسي بأخيه التونسي بشاعة.

ويتم هذا البناء عبر رحلة مضنية للبحث عن موارد بصرية، تمنح للأثر شرعية الانتماء إلى الفن السينمائي، من صور أرشيف وقصاصات جرائد وإعادة تمثيل للمشهد يقتضي ممثلا لاعبا ومخرجا موجها وتقطيعا فنيّا، فيتضافر مع ما في الشهادات من نزعة إلى القصّ، ليخلق تنازعا بين صالح بن يوسف البطل الذي يعمل جاهدا على إعادة هيكلة الحزب والدّفع إلى الاستقلال التّام، ومناوئه بورقيبة الذي يتسكّع في المشرق طويلا، ثم يعود ليتحالف مع فرنسا لعرقلة البطل والحيلولة بينه وبين إدراك أهدافه، وليقبل باستقلال منقوص.

بوستر فيلم “صالح بن يوسف.. جريمة دولة؟”

يجعل هذا البناء الفيلم متتاليات من الحالات والتّحولات، تتقدّم في الزمن وتدفع بالحكاية نحو الذروة، ثم نحو النهاية المزدوجة المَخرج؛ بين هزيمةٍ تسقط بن يوسف صريعا لطلقات الغدر في فرانكفورت، وبين مجدٍ تجسمه الجنازة المهيبة التي تُنظّم له في القاهرة، ويحضرها عدد كبير من رموز السياسة والنّضال، فلا تخلو -ضمن خلفيّة درامية- من اللمسة السينمائية الجميلة المميزة للنمطي من أفلام التخييل، فالبداية تصادر على جريمة الدولة، والنهاية إدانة لانحراف دولة الاستقلال ترد على لسان الزوجة أو الأخ.

هذه السمات تجعل فيلم “صالح بن يوسف.. جريمة دولة” تقليبا على أصل سابق، بنيّة عميقة ميّزت بسط المخرج لسيرتي فرحات حشاد والمنصف باي من بناء حجاجي ومشاهد تمثيليّة تقاوم ندرة الموارد البصرية، ويتدرج فيها المخرج من سينما التحريك في فيلم “اغتيال فرحات حشاد” إلى المشهد التمثيلي الصامت في “نهاية عرش” إلى المشهد التّمثيلي الناطق في فيلمه الحالي، وشخصية تراجيديّة تتحدى قدرها رغم علمها بنهايتها المحتومة، وتلقى نتيجة لذلك حتفها.

فإذا بهزيمتها الماديّة الظاهرة تصبح انتصارا معنويا وتضحية في سبيل الوطن وفي سبيل حريتها، رفضا للحتم وللضرورة. كأنه أحد أبطال التراجيديات الإغريقية في مواجهة مناوئ (ممثل في شخصيّة بورقيبة) تدعمه فرنسا لضرب ممثل الهوية والشخصية الوطنيّة (سواء كان حشاد أو المنصف باي أو يوسف بن صالح).

بطل غيور وغريم في الحضن الفرنسي.. صراع الطيب والشرير

من العناصر المساعدة على فهم الأثر الفنيّ ورصد احتمالات معانيه العنوان، باعتباره عتبة أساسيّة في عمليّة التأويل. و”صالح بن يوسف.. جريمة دولة” عنوان ورد في صيغة استفهاميّة تعِد بتقصي المسألة وإثباتها بالحجة والدليل.

ولكن الفيلم يفاجئنا منذ البداية بحسم المسألة، فيقدّر مع أول شهادة أن اغتيال يوسف بن صالح جريمة دولة، محددا الجاني والضحية، قاتلا في متفرّجه التّوقع، وحائلا دون لعب المخرج دور المحقق من الفيلم البوليسي الذي أدّاه بإتقان في فيلم “اغتيال فرحات حشاد”.

بعد عودة صالح بن يوسف إلى تونس، شعر بورقيبة بوجود منافس له على السلطة، فقتله

ويتحوّل دور المخرج نتيجة تحديد الجاني (بورقيبة) إلى البحث في دوافع ارتكاب الجريمة. ضمن هذا الأفق ترسم الشهادات لصالح بن يوسف شخصيّة المتشبع بالهوية الإسلامية (حرص والده على إكسابه ثقافة مزدوجة) والمدرب على قبول الآخر بما منحته نشأته في جربة المتعدّدة ثقافيّا، مما جعله يحول العمل في الحزب من الزعامة الفردية إلى العمل المؤسساتي، تدعمه في ذلك قدرة على التعبئة الجماهيريّة تكفل له ولاء 80% من الشعب.

كما تدفعه غيرته إلى إيثار مصلحة البلاد على مصلحته الشخصيّة، فيتنازل عن رئاسة الحزب طوعا لبورقيبة ولا يقرر مواجهته إلا بعد خيانته للعهد وقبوله باستقلال داخلي منقوص يحرم البلاد من شؤون الدفاع والأمن والعدل والخارجيّة، فتتركه بيد المستعمر.

أما بورقيبة فيرتمي في حضن فرنسا وينتصر إليها في حربها ضد المحور في الحرب العالميّة الثانية، مما يلحق ضررا كبيرا بشعبيته، فيتوارى عن الأنظار ويسافر إلى المشرق، تاركا أعباء القيادة إلى بن يوسف، وعلى تضخم أناه وتمسكه بقيادة الحزب لا يكسب ولاء خمس السّكان، ولولا تواطؤ الاتحاد العام التونسي للشغل معه في مؤتمر صفاقس لما حسم الصراع لفائدته.

حاصل هذا الاختيار الجماليّ أنّ الصراع ما عاد يدور بين زعيمين سياسيين يرى كل منهما جدارته برئاسة البلاد، وإنما أضحى يدور بين بطل طيب ومناوئ ماكر شرير تخونه الحيلة، فلا يجد سبيلا للانتصار في معركته غير الغدر والخيانة، فالفيلم ما عاد يبحث عن توثيق الحقيقة بقدر ما يصطنعها برومانسّية مُحبَطة.

إسقاطات الراهن.. تجاذبات توجه دفة السفينة السينمائية

حاول الفيلم بناء الحقيقة التاريخية بإعادة تشكيل الزمن وملاحقة سهمه، وقد أوغل في البعد وعلى تحقق ذلك بمقدار بيّن لم يسلم من ضغط اللحظة الرّاهنة، ومن شأن الأثر السينمائي أن ينفتح على الهم الاجتماعي، فيدفع بالراهن إلى السطح عبر ضرب من الإسقاط، أو الاستباقات المدفونة في التّراث نفسه، فأضحى صراعا بين ممثّل للهويّة الإسلاميّة، ضد بورقيبة ممثل الحداثة المعطوبة الذي لا ينتصر إلا بتواطؤ فرنسي يجعل مسار التّحديث الذي شهده المجتمع التّونسيّ تعسفا على الإرادة الشعبية واستمرارا للمخطّط الخارجي الاستعماري.

ومن مظاهر ضغط الراهن الزج بالاتحاد العام التونسي للشغل في هذه المعركة، وتقدير الفيلم أنّ النّقابي أحمد عاشور هو من منح حكم البلاد إلى بورقيبة، وحسم بظلمه المعركة لصالح الشق الأضعف. وعلى ما في هذه الأطروحات من وجاهة أحيانا وورودها على ألسنة المحاورين، فإن اجتماعها هذا الاجتماع -والمخرج من يختار الشهادات وينضدها ويقصي منها ما يريد- حوّل المعركة بين الرجلين إلى معركة بين الخير والشرّ، وأوقع الفيلم بجلاء تحت وطأة الإيديولوجيا.

من أجل الاستحواذ على الحكم في تونس، ضحى بورقيبة بصالح بن يوسف

وقد تأثر الفيلم عميقا بطبيعة العلاقة المتوترة بين بورقيبة وتوجهاته الحداثية التي تستلهم مشروعها المجتمعيّ من الهجرة في المكان، مستلهما علمانية غربيّة، وبين شق من خصومه من المتمسكين بتصور للهوية يستلهم من رحلة استعادية في الزمن الغابر؛ بقدر ما تأثر بحالة التجاذب السياسي اليوم في تونس ما بعد الثّورة بين قطبين هما الترويكا الحاكمة في تونس ومعارضيهم بين بورقيبيين ويساريين ونقابيين.

رفض الصلح ومحاولات الاغتيال.. جانب القصة المغيّب

ربما كان الضغط والتجاذب الحاصل في تونس هو ما غيّب جملة من الحقائق منها أن رغبة بن يوسف في السلطة جعلته يرفض عروضا عدة من بورقيبة تدعوه إلى المصالحة وتجاوز خلافات الماضي، ومنها محاولته أكثر من مرة اغتيال بورقيبة.

وقد غيّب اختزال الصّراع في الرجلين معاناة اليوسفيين ومحاصرة النظام البورقيبي لهم لاحقا، وعمله المنهجي على حرمان الخط الغربي للبلاد التونسية من شروط التنمية انتقاما من مناصرتهم لغريمه، كما غيّب جريمة أخرى نقدّر أنها أشد وأعتى هيّ زجّ بورقيبة بمئات المواطنين العزّل في معركة بنزرت غير المتكافئة مع القوات الفرنسيّة (20 يوليو/تموز 1961) للمطالبة بالجلاء التّام حتى يحدّ من تدهور شعبيته بعد قبوله بالاستقلال المنقوص ويتخلّص من اتهام من عبد النّاصر وبن بلّة له بخيانة فكرة الاستقلال المغاربي، وحتى يستثمر ما سيكسب من “زخم نضالي” بعد هذه المعركة، فيتخلّص من غريمه بعد ثلاثة أسابيع من هذه المعركة  (12 أغسطس/آب 1961)، وقد كسب العقول والقلوب وشرعيّة النضال المسلّح ضد المستعمر.

مخرج الفيلم “جمال الدلالي “

اشتمل الفيلم إذن على بُنية ثانوية تجعله ضلعا من ثلاثية المخرج جمال الدلالي المميّزة، وهي “اغتيال فرحات حشاد” و”محمد المنصف باي نهاية عرش” و”صالح بن يوسف جريمة دولة”، ولكنّنا نقدّر أن اكتمال أضلاع المثلث استهلك مختلف إمكانات الإبداع ضمن هذا النّموذج، بما يحتّم على المخرج البحث عن مقاربات جماليّة جديدة حتى يتجنّب السّقوط في النّمطيّة العقيمة.

ونقدّر أن كون العمل السينمائي رؤية فنيّة ووجهة نظر للحقيقة يدعو المبدع إلى العمل بعيدا عن مؤثرات الراهن وعن التجاذب الإيديولوجي، فمن شأن العمل الإبداعي أن يخترق الزمن ويسعى إلى الخلود، أما الرّاهن بكل تجاذباته فإلى الزّوال يسير.


إعلان