رسالة مهرجان بارى بإيطاليا (2)
” الرجل الأول ” فيلم مكتمل عن قصة غير مكتملة
صفاء الليثى
أتصور أننى تابعت الفيلم بعد مرور الدقائق الأولى ، ودون أن تكون لدى خلفية عما سأشاهده. أرى رجلا متوسط العمر بحلة رسمية وسط تجمع صاخب، منهم من يحمل لافتة _ الجزائر فرنسية- ، تظهر معارضة كبرى للرجل الذى يتحدث بلغة فرنسية عن انحيازه لاستقلال الجزائر عن فرنسا ، أتابع الترجمة الإنجليزية على الشريط ، وخطوات الرجل الهاديء المختلف عن المحيط الذى يملأ المشهد. ثم قطع على مشهد لعربة بدائية محبوس بها كلاب ضالة. طفل كان قد تسلل من منزله يقترب بفضول من الكلاب خلف الحجز، فجأة يظهر أطفال أشقياء يحثونه على إطلاق سراح الكلاب، فيطلقها، يظهر رجل بلباس مغاربى يتحدث بالعربية نادبا حظه، يطارد الأشقياء وينجح فى اصطياد الطفل بطوق الكلاب، يأخذه ويحبسه فى العربة مكان الكلاب، ويتركه حتى صباح اليوم التالى، العربة الآن على شاطئ البحر فى موقع قريب من كوخ العربى. يقترب ابن الرجل العربى يطلق سراح الصبى الأبيض ولكنه يساومه – فى صمت- ليحصل على حذائه.
تقديم شخصية العربى صائد الكلاب الضالة أهوجا طائشا، والعربى الصغير وضيعا يأخذ مقابل مساعدته للآخر ستتدعم على مدى الفيلم . فسوف نعرف أن الصبى الأبيض يدرس فى مدرسة عامة ومعه الصبى العربى الذى يبادره بالعراك، يتحمس التلاميذ الآخرون ويتزايد العراك، يحضر المدرس الفرنسى ويعاقب العربى بتذنيبه ، هو الآن فى الحوش رافعا يده والآخرون يلعبون، يقترب الصبى الأبيض ليعطيه طعاما فيصفعه على وجهه . يصور المخرج العربى الصغير جحودا يقابل الحسنة بالعنف. وهو عين موقف العرب الكبار الذين يهاجمون الأستاذ لمساندته استقلال الجزائر. وهكذا بعد مضى حوالى ربع الساعة من الفيلم الذى بلغ طوله مائة دقيقة فيها يضعنا المخرج إيمليو على طريق تتبع فيلمه الذى يقدم سردا بأسلوب تيار الوعى المعروف فى الأعمال الأدبية. متتبعا طفولة جاك وهو ألبير كامو نفسه صغيرا وعلاقته بالسكان الأصليين للجزائر. مستعرضا أزمة الكاتب وأمه الفرنسية التى اندمجت مع العرب وفضلت البقاء فى الجزائر بعد الاستقلال. تعبير السكان الأصليون ترفضه السيدة عقيلة أوراد التى تم استضافتها لتعلق على الفيلم فى ندوة عقدت صباح اليوم التالى لعرضه، فى حضور المخرج جيانى إميليو وناقد إيطالى ومدير المهرجان السيد فيليتشى لوداديو، السيدة عقيلة ناشطة حقوقية ومدافعة عن حقوق المرأة أعربت عن غضبها من استخدام مصطلح السكان الأصليون وقالت نحن جزائريون أو تونسيون أو فلسطينيون. المخرج الإيطالى المعروف باهتماماته التى تتخطى حدود قضايا بلاده المحلية نفى أن يكون قد صور العرب على أنهم يميلون إلى العنف وجاحدون. وأكد أنه أراد أن يقدم لعمل المقاومة الذى سينخرط فيه لاحقا ” الرجل الأول” وهو الابن الذكر الوحيد للعربى الذى زامل ألبير كامو فى الدراسة الابتدائية. ودافع عن عمله أمام رأى الناقدة التونسية نورا بورصالى التى طُلب منها التحدث عن الثورات العربية فبدأت بالتعبير عن رفضها الصورة التى ظهر عليها العرب فى الفيلم . ولكننى أميل إلى رأى المخرج الذى نجح فى تصوير علاقة قوية بين كامى والعربى استمرت حتى عام 1957 حين انخرط ابن العربى فى المقاومة ويحصل كامو على اذن بالزيارة وفيها نشاهد فتى أبيا يطلب من أبيه أن يطمئن عليه لأنه فى حالة ممتازة مستعدا للشهادة فى سبيل تحرير بلاده.

فى أحد مشاهد العودة للماضى سنشهد ميلاد المناضل طفلا ذكرا بعد عدد من الإناث وسيكون فرحة أبيه والرجل الأول فى العائلة. ينتهى الفيلم بالبيان الذى ألقاه جاك-ألبير كامو- فى الإذاعة ينحاز فيه إلى استقلال الجزائر عن فرنسا. بعدما زار أمه التى رفضت أن تجمع حاجياتها وتغادر الجزائر التى استراحت فيها رغم عدم اندماجها مع أهلها. الفيلم ليس من الأفلام باهظة التكاليف ضخمة الديكورات، ويظهر هذا فى السوق الذى سيذهب إليه جاك للبحث عن أمه، فقط بضع نساء بحجابهن الأبيض وقليل من التفاصيل. وكانت المشاهد التى تحكى عن طفولته أكثر غنى استمتعنا فيها بتفاصيل علاقته مع جدته القاسية، وخاله عامل المصنع المحب لابن أخته اليتيم الذى فقد أباه وربته الجده بقسوة محبة ليشب مسئولا ، نشاهد الطفل يعمل فى المصنع وينال الإعجاب لأنه يجيد الحساب، الطفل متفوق وعندما يقررون ألا يذهب للمدرسة لضيق ذات اليد، يأتى مدرسه ويحصل له على منحة. الطفل الذى قام بالدور تم تكريمه فى الدورة الرابعة لمهرجان بارى ومنح جائزة خاصة عن أدائه قدمها له المخرج جيانى إميليو فى حفل ختام المهرجان 31 مارس 2012. وكان الفيلم حاز جائزة النقاد الدولية الفيبريسى للأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية عام 2011.
العمل الأدبى يمثل سيرة ذاتية خيالية للكاتب الفرنسى المولود بالجزائر ألبير كامو، وتغطي شبابه في الجزائر، مع قدر من التفاصيل عن حياة الطبقة العاملة البيضاء التي ينتمي إليها، غياب الأب والعلاقة القوية مع الأم التى لم تترك الجزائر حتى بعد الاستقلال، تصف تدخل أحد مدرسي المدرسة الذين حصلوا على منحة دراسية له ، وكان يربطه به علاقة شبه أبوية ومحبة خاصة، كانت الرواية هى الخطوة الأولى على الطريق إلى جائزة نوبل للآداب رغم أنها لاتدرج ضمن أعماله الهامة الغريب والطاعون. ونشرت في فرنسا في عام 1994، اكتشفت بعد 34 عاما بعد مخطوطة بخط اليد لها في حطام حادث سيارة أسفر عن مقتل صاحبه وكان ذلك عام 1960، وقد نقلها الكاتب / المخرج جياني أميليو إلى الشاشة مع كامل الاحترام لتفاصيل الرواية . الفيلم من بطولة جاك كومرى ومن إنتاج فرنسا والجزائر وإيطاليا عام 2011.
أما المخرج الإيطالي.جياني أميليو فهو من مواليد 20 يناير 1945 في دي سان بيتر ، بمقاطعة كاتانزارو، كالابريا. بجنوب إيطاليا، انتقل والده إلى الأرجنتين بعد وقت قصير من ولادته. أمضى شبابه والمراهقة مع والدته وجدته. وسيكون عدم وجود الأب ملمحا متكررا في أعمال أميليو في المستقبل.
خلال دراسته الجامعية في الفلسفة في ميسينا، اهتم أميليو بالسينما ، ومارس الكتابة والنقد السينمائي لمجلة محلية. وفي عام 1965 انتقل إلى روما، حيث عمل مساعدا للإخراج مع ليليانا كافاني وفيتوريو دي سيتا. كما عمل في التلفزيون فى إخراج البرامج الوثائقية والإعلانات.

قدم إميليو عمله الهام الأول فى التلفزيون عام1973 للتلفزيون ، وأعقب ذلك بوثائقى عن فيلم بيرتولوتشي 1900 اطلاق النار 1976، وبعد عامين قدم فيلمه ” مدينة الشمس” الذى فاز بجائزة في مهرجان لوكارنو، وأعقبه بفيلم ” الموت فى العمل ” 1979 نال انتقادات لاذعة. في عام 1982 قدم فيلم ” تبادل لاطلاق النار في القلب” عن الارهاب الايطالية، الذى عرض في مهرجان البندقية السينمائي. في عام 1987 صدر أميليو فيلم ” عن طريق الولاد” عن حياة علماء الفيزياء اٌلإيطاليين عام 1930 الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان باري. (ثم قدم عام 1989 فيلم ” الأبواب المفتوحة” الذى أكد وضع أميليو باعتباره واحدا من أفضل المخرجين في ايطاليا وحصل على ترشيح لأفضل فيلم أجنبي في جوائز الاوسكار عام 1991.
واستمر النجاح مع فيلم ” الأطفال المسروقة ” عام1992، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي ، وقدم لاأمريكا عام 1994، حول الهجرة الألبانية في إيطاليا، والجنيات والنجاح،. بعد أربع سنوات فاز “طريق كوزى” بالأسد الذهبي في مهرجان –فينيسيا- البندقية السينمائي.
كما نال أميليو الشريط الفضى كأفضل مخرج عن “مفاتيح البيت ” عام 2004.
وكان أميليو عضوا في لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي في عام 1995. في عام 2006 أخرج فيلمه الثامن ” النجم المفقود” عام 2009، وأصبح مدير مهرجان تورينو، تورينو. عام2011 قدم فيلمه ” الرجل الأول” الذى كان واحدا من أهم الأفلام التى عرضت بمهرجان بارى.