مهرجان “السينما الأفريقية” في السويد
هموم القارة وثوراتها في دورته السابعة عشر
قيس قاسم ـ السويد
طغى الحضور العربي على ما سواه من مشاركات في مهرجان السينما الأفريقية في السويد، لدرجة ظهرت فيها دورته السابعة عشر وكأنها مكرسة للسينما العربية وأفلام ربيعها، وإنسحب الحضور على فعاليات المهرجان الأخرى، فالندوات وضيوفها أغلبيتهم كانوا من الدول العربية كما ان افتتاحها كان بفيلم مغربي عنوانه “فيلم” حصل مخرجه محمد عاشور، خلال مشاركته العام الفائت في “المهرجان الوطني للفيلم” في طنجة، على جائزة العمل الأول.
من تقاليد المهرجان إنتقاله الى أكثر من مدينة سويدية فبعد ستوكهولم أنتقل الى ثان مدنها غوتنبرغ، وسيعرض فيها، من تاريخ الثالث عشر من أبريل حتى الخامس عشر منه، أغلب الأفلام التي عرضت في العاصمة وبذلك يوفر فرص مشاهدة لجمهور سويدي أكبر، فالغاية منه وفي أساس إنطلاقته تعريف أبناء البلد بالتطور الحاصل في السينما الأفريقية، ولعل البرنامج المدرس يعطي فكرة عن طبيعة المهرجان التي تتخطى العروض الى انفتاح على الفئات العمرية الأصغر في محاولة لإشراكهم في فهم ما يجري في القارة من حراك ومشكلات من منظور فني سينمائي، كما يوفر للجميع امكانية مشاهدة جديدها، الى جانب التعرف عن قرب، على بعض صناعها وبخاصة منجزي أفلام الثورات، التي إنطلقت من شمالها ولهذا فجل العروض جاءت من تونس، المغرب، الجزائر ومصر.
من بين الأفلام المعروضة في غوتنبرغ الوثائقي التونسي “لا خوف بعد اليوم” لمراد بن الشيخ، و”1/2 ثورة” لعمر الشرقاوي و”18 يوم” الذي وصف بأنه الفيلم الأول عن الثورة المصرية ومن ليبيا فيلم التحريك القصير “خرابيشx 8 ” ويجسد بطريقة ساخرة وعبر أجزاء متسلسلة التغيير الحاصل في ليبيا وغيرها من البلدان. ولايقتصر الأمر على أفلام الربيع العربي، بل يتعداه الى تقديم أفضل ما أنجز حديثاً ومنها فيلم “عمر قتلني” لرشدي زم والذي رشحته المغرب ليمثلها في منافسات الأوسكار الأخيرة. ومن تونس الشريط القصير ”بنات البوكس” من عمل لطيفة ربانة دوغري وسالم الطرابلسي، الذي سبق له المشاركة في مهرجان الدوحة السينمائي. من العروض اللافتة فيلم “رجال أحرار” للمغربي الفرنسي الجنسية اسماعيل فروخي، ويرجع فيه الى الحرب العالمية الثانية حين ساعدت مجموعة من المسلمين المقيمين في باريس بعض اليهود المطاردين من قبل النازيين.

الفيلم يمكن وصفة بأنه اعادة قراءة تاريخ غَطَت عليه أحداث أخرى أعقبته وساهمت في طمسه، فالرجال الذين ضحوا بحياتهم في سبيل تخليص عوائل يهودية من الموت جسدوا بأفعالهم معان انسانية، لعب فيها العرب والمسلمون دوراً مشرفاً لابد من تسجيله، ولهذا ف”رجال أحرار”هو في جزء منه توثيق سينمائي لتاريخ وحقبة زمنية توحدت فيها البشرية وعلى اختلاف دياناتها ومذاهبها في مجابهة عدوها البغيض: الفاشية. أما فيلم “الشوق” فيعرض من خلاله المخرج خالد الحجر، حالة مصر قبل الثورة وبطريقة غير مباشرة يشير فيها الى حالٍ كان لابد من تغييره. من الجزائر سيشاهد جمهور غوتنبرغ فيلماً يحمل اسمها: “الجزائر غداً”، ويسلط فيه مخرجه أمين سيدي بومدين ضوءاً على مشكلات شباب بلاده ومستقبلهم عبر مجموعة من الجزائرين كانوا يقضون معظم أوقاتهم في حوارات يغلب عليها هاجس التغيير والهجرة، كما في حالة فؤاد، الذي قرّر الهجرة إلى فرنسا، وحاول إقناع رفاقه بها. كان من الممكن أن يظلَّ هذا الموضوع مصدر حكاية الفيلم كلّه، لكن، وفي لحظة جسدت تقاطع طرق الأصدقاء، ظهر على الشاشة تاريخ الزمن الذي كانوا فيه: إنهم في اليوم الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1988، أي قبل يوم واحد من الأحداث الدراماتيكية التي عاشتها الجزائز حينها. عمل أمين سي بومدين مراوغ، حمّال أوجه: هو قابل للتفسير بكونه قراءة لتاريخ يتوعّد بإعادة نفسه إذا حدث تغيّراً في البلد، شبيه بالذي عرفته تونس ومصر. بمعنى الخوف من انفلات يعيد البلد إلى “سنوات الجمر”. وفي قراءة ثانية، بدا كأنه تنبّأ بحدوث تغيير وشيك في الجزائر، كالذي حدث في الجوار العربي. في الحالتين، أعطى التاريخ المكتوب في خاتمة الفيلم لوحده معنىً درامياً، رفع من قيمة العمل وأغناه. وعلى المستوى السينما غير العربية هناك “جمال” للجنوب أفريقي أوليفر هيرمانوس الذي رشح، أيضاً، ليمثل بلاده في منافسات الأوسكار، وقبلها خرج بالكثير من الجوائز منها جائزة أفضل فيلم في مهرجان دوربان السينمائي، فيما مَثل فيلم “قضية جري” مفاجأة رواندية كونه أول فيلم روائي تنتجه في تاريخها، ويشي شغل مخرجه كيفو روهوروزا بموهبة سينمائية واعدة، تجلت في إسلوب تناوله موضوع الحرب الأهلية التي عاشها، وجسدها بطله جري، من خلال دوره كشاب فقد جزءاً من عقله إثر ما شاهده من أهوال. لجأ كيفو الى مستويين من السرد أحدهما يمثل المخرج نفسه الذي أراد صنع فيلم ولكنه لم يجد الدعم اللازم له، فالفن ليس من أولويات الساسة في بلاده ولهذا سيحاول بجهده صنع فيلمه الخاص وليصور، وهنا يأتي المستوى الثاني، بكامرته ما تعرضا له جري من تمزق وضياع بسبب الحروب التي دمرت بلاده وراح جل أفراد قريتهم ضحية لها فما كان منه في النهاية إلا أن وضع حداً لحياته. بإنتحاره يصدم كيفو متفرجه بعد أن أعطاه بارقة أمل بتحسن حالته النفسية. انه ترميز الى النهاية التراجيدية لآلاف من الأفارقة الذين كان الموت في انتظارهم سواء من خصومهم أو من ذواتهم المعذبة التي لم تعد تحتمل حتى ذكريات الحرب.