نهايات سعيدة لقصص عراقيون في المنفى
نهايات سعيدة لقصص عراقية في السويد!
أمستردام – محمد موسى
أثارت قضية قرار هولندي حكومي صدر العام الماضي، يقضي بارجاع قسري لصبي افريقي يعيش في هولندا منذ سنوات لبلده الاصلي، ردود افعال كبيرة إعلاميا وسياسيا في البلد الاوربي الصغير المساحة، بل إنها كادت وقتها ان تسقط الحكومة الهولندية نفسها، والتي إتهمت بشتى التهم واقذعها من قبل الاحزاب السياسية اليسارية التوجه والمنظمات الانسانية. وكانت القضية ( إنتهت بقرار مؤقت بالابقاء على الصبي في هولندا لسنوات حتى يتم النظر في وضعه القانوني مجددا ) مناسبة لوسائل اعلام هولندية عديدة لتحري قصص الاطفال الالجئين، والذين يصلون بالعشرات لهولندا كل عام، وحيدين بدون عوائلهم، على أمل أن تثير قصصهم تعاطف السلطات المختصة، لتمنح اهلهم الموافقات للمجيء الى هولندا والالتحاق باطفالهم.
تحقيقات وسائل الاعلام الهولندية وصلت الى خلاصات لا توافق التعميمات السهلة التي تطلقها الاحزاب السياسية الهولندية اليمينية، والتي تركز في خطابها السياسي على أنانية العوائل تلك والتي تدفع بها للمغامرة بسلامة ابنائها من اجل حياة سعيدة في اوربا، فالالجئون الاطفال، وحسب تقارير الاعلام المكتوب والمرئي، هم في معظمهم ضحايا الاوضاع السياسية والاجتماعية في بلدانهم ، والعوائل لا تجد احيانا غير تلك الوسيلة للهروب من الملاحقات واحيانا الموت.
ومؤخرا قامت القناة التلفزيونية الهولندية الرسمية الثانية بعرض الفيلم التسجيلي السويدي (إبن المليشيات)، والذي يقدم قصة عائلة كردية عراقية قامت قبل اكثر من عقدين من السنوات بارسال ابنها الذي لم يكن تجاوز السادسة من العمر للسويد، ليمكث فيها لوحده لعام كامل، قبل ان توافق الحكومة السويدية على منح تأشيرة الدخول لعائلة الطفل.
يقوم الشاب الكردي السويدي زينار آدمي ، وهو على أعتاب العقد الثالث من العمر، بتحري قصة عائلته بنفسه، وسيقوم باخراج الفيلم مع المخرج السويدي ديفيد هيرديز، ليستعيد فيه بعضها من تاريخ عائلته، مقتربا من ذكريات صعبة، فاتحا جروحا تجتهد العائلة على نسيانها. ويوجه ايضا واحدا من اشد الاسئلة قسوة الى والديه : ” كيف تتركوني وانا في الخامس فقط لوحدي في تلك الطائرة التي كانت متجهة للسويد؟”. وهو السؤال، الذي على الرغم من انه يعرف اجابته، وربما راضي بقراره نفسه عن خطوة الاهل، والتي انتهت به بعيدا عن عنف المكان الذي قدم منه في كردستان العراق، مازال يتضمن اتهاما حادا يتطلب اجابة مفصلة ، لن يكون باستطاعة الوالدين تقديمها، بالسهولة التي يدافع فيها متهم ما عن نفسه .كما لن تخفف التبريرات السابقة من فداحة الفعل الذي قامت به العائلة بارسال طفل الى مصير غير معلوم في بلد يبعد الآلف الكيلومترات.
يبدو الضيق باديا على محيا والدا زينار آدمي عند الحديث عن حياتها في العراق. تختار الام، وعوضا عن المقابلة الصحفية المباشرة، أن تطلع ابنها على صور فوتغرافية قديمة لمعسكر المقاتلين الاكراد الذي قضت فيه سنوات طويله جنبا الى جنب مع زوجها. كجزء من الحركة المسلحة الكردية ضد النظام العراقي السابق، والتي لم تتوقف ابدا طوال عقود السبعينات الى منتصف التسعينات من القرن الماضي. لا تغيب الابتسامة عن الزوجين الشابين في صور الاسود والابيض القديمة، لكن الحال وقتها كان أبعد ما يكون عن السعادة، فالاب مر بتجربة مروعة بسجون نظام صدام حسين، يرفض التقرب منها كثيرا، كما يرفض ان يطلب اي مساعدة نفسية في السويد، والافق كان يضيق سريعا على الحركة الكردية المسلحة، علاوة على مرض ابنهما الوحيد عجل باتخاذ العائلة لقرار إرساله الى السويد.

لا يستعجل الفيلم اي مواجهات بين افراد العائلة، لا يوجد بالحقيقة ما يستدعي اي عجالة، فالعائلة تعيش بهدوء كبير في السويد، بعيدا عن هزات الماضي ومتاعبه، لذلك صورت مشاهد الفيلم على مدى بضعة اعوام. فيبدأ بمشاهد عن قصة حب زينار آدمي مع صديقته السويدية، ثم انجابهما لابنهما الاول، وزواجهما، لتصور المشاهد الاخيرة مشاهد لحفيد العائلة وقد بلغ عامه الثاني، كذلك يرافق الفيلم زيارة زينار آدمي مع والده الى كردستان العراق، والتي لم يظهر منها في الفيلم الا مشاهد قليلة، كانت الاضعف ضمن سياق الفيلم الخاص، والذي اختار ان يكون بمعظمه مكاشفة يهمين عليها الحب والتفهم.
غلفت الحميمة التي تعامل بها زينار آدمي مع اهله، وخاصة مع والده ( طلب منه مرتين في الشريط التسجيلي أن يعانقه ) الفيلم كله بالحزن والسوداوية، لتثير قصص العابرين فيه حسرات كبيرة على حياتهم وزمنهم، فالاب الذي يقود سيارة تاكسي في السويد، يضع تلك الابتسامة الجاهزة على وجهه، والام التي ترفض العودة الى ذكرى ذلك اليوم ، عندما كان ابنها ينتظرها في مطار العاصمة ستولكهوم قبل اكثر من عشرين عاما، حاملا وردة حمراء بلون الدم، اشترتها له العائلة السويدية التي استضافته لعام كامل، والاكراد الذين كانوا يحملون حقابئهم الثقيلة في المطارات التي صورها الفيلم، متجهين او عائدين من المكان الذين يترددون في اطلاق وصف “الوطن ” عليه. والشابة الايرانية التي كانت تغني بساحة سويدية عامة اغنية عن ابناء بلدها في تجمع سياسي ، والتي صورها الفيلم بالصدفة اثناء مرافقته للمخرج مع والده، سيربط صوتها المجروح بين المشاهد القادمة، الصامتة بمعظمها، عن عائلة عراقية وجدت السعادة بابتعادها عن الماضي.
وكما يحدث غالبا بين العائلة الواحدة، هناك الكثير من المسكوت عنه في عائلة زينار آدمي والذي لا تتم الاجابة عنه في الفيلم التسجيلي (إبن المليشيات). لكن هذا لا يبدو انه يشغل بال مخرجي الفيلم، وبالاخص زينار ، والذي ربما وفر الفيلم له فرصة مهمة للاقتراب من اهله وخاصة والده، كالساعات التي قضاها معه سابحا في مسبح عام و بحيرة ريفية سويدية، والتي تم تصويرها بطرق مبتكرة، من تحت الماء احيانا ، وبالتصوير البطيء احيانا اخرى، ليظهر الاب والابن يدفعان الماء بحركات عادية، لكنها تتخذ احيانا بعدا رمزيا عن “مشاق” الحياة التي تدفعها العائلة للوصول الى الضفة الاخرى.