البحث عن الأنسان في دوامة الحرب

طاهر علوان

صور عن مكان وذكريات ونبش في دفاتر التاريخ ، كل شيء آيل لأن يصبح تاريخا وعلى السينما ان تلاحق وتوثق وتبحث عن صورة الأختلاف وشكله ومعانيه ..ولأن السينما الوثائقية منذ  بداياتها الأولى كانت اداة تعبيرية عابرة للمسافات والتواريخ ، تلاحق الحقيقة وترصدها وتتعمق في معانيها ولم تكن الا في جزء منها عملا ريبورتاجيا صحافيا خالصا …هذه السينما الوثائقية هي التي يقال عنها انها السينما الجادة والمختلفة التي تتواشج فيها المعاني والدلالات والرموز في كل تعبيري دال وموضوعي .
لعل هذا الذي نتحدث عنه انما يخص تلك السينما الوثائقية التي تبحث عن بدائلها الواقعية في ماضي الشخصيات وتحولاتها وفي تلمس المكونات المكانية بل وفي اعادة قراءة المكان وتحليله والغوص في تحولاته والتعريف بتفاصيله .
هذه الخلاصات تحضر الى الذهن لدى مشاهدة الفيلم الوثائقي “وداعا بابل” للمخرج العراقي المقيم بباريس عامر علوان الذي تحصل على طاف العديد من المهرجانات في انحاء العالم حاصدا العديد من الجوائز وهو انتاج عراقي – اسباني .
يقدم عامر علوان في هذا الفيلم موضوعا انسانيا عميقا ومؤثرا من الواقع العراقي ، تشعر وانت تخرج من مشاهدة هذا الفيلم بشيء من الراحة بسبب تعامل المخرج مع عقل المشاهد لاكما درجت بعض الأفلام العراقية على الضرب على الوتر العاطفي واستدرار عطف او تعاطف المشاهد ..وهو امر اؤكد عليه وانبه اليه كل العاملين في هذا الميدان ان يحذروا ويكفوا من هذا الدوران في حلقة استدرار عطف وتعاطف المشاهدين وتكرار المشاهد المألوفة والمباشرة للبكائيات والنواح واكوام القمامة ..لأن هذه الصور ان كانت مقبولة لدى المشاهد العراقي فأن المشاهد العربي قد سأمها من فرط تكرارها الى حد الملل ومعرفة النتائج مسبقا وهو مالايخدم السينمائي  العراقي مطلقا بل ويضعف مهمته ووظيفته وهي نصيحة لابد لي ان اقدمها الى كل الذين استمرؤوا الكليشيهات الفيلمية التي وفدت الى الفيلم العراقي وتحولت الى قاسم مشترك في كثير من الأفلام .
يشكل فيلم عامر علوان اضافة  جدية الى  مسيرة الفيلم الوثائقي العراقي في قسمه الخاص بالموضوعات التي تتحدث عن الأحتلال الأمريكي للعراق ونتائجه ومخلفاته ..فهو اولا اخرجنا من دائرة المخرج المقيم في الغرب الذي يعود الى العراق بعد سنوات ليقدم لنا مشاهداته ..وهو اخرجنا من دائرة الكليشيهات المتعلقة بالبكائيات والشكوى المكررة على شاشات الفضائيات والشخصيات والأماكن الكئيبة الى موضوع آخر مختلف تماما .

الفكرة والموضوع
يتحدث الفيلم عن شخصيتين هما مترجم عراقي اسمه “ديار” كان يعمل مع القوات الأمريكية الغازية والشخصية الأخرى هي الجندي الأمريكي “فرانك اوفاريل ” الذي تربطه علاقة صداقة متينة مع ذلك المترجم الذي ينتهي به الأمر الى العمل سائق سيارة اجرة بعد انتهاء مهمته في الترجمة وسفر زميله عائدا الى بلاده لكن صلته بصديقه المترجم العراقي لاتريد ان تنتهي .
يواكب المخرج مراسلات المترجم والجندي الأمريكي  عبر البريد الألكتروني ، رسائل انسانية مؤثرة وخلالها يتنقل المخرج بين مفردات حياة ويوميات كل من الشخصيتين مابين الولايات المتحدة وبغداد ، حتى انه يتغلغل في ادق تفصيلات الحياة اليومية للشخصيتين ، المترجم السابق مازال مرعوبا يرفض اظهار شخصيته ولا اسمه ولا اي شيء يخصه خوفا من تصفيته حيث جرت تصفية العديد من زملائه الذين تعاونوا او عملوا مع الجيش الأمريكي ، ولكنه يمارس حياته اليومية بهدوء متنقلا في ارجاء مدينة الحلة ، بلا بكائيات ولا شكوى مكررة بل انه يرى الحياة كما هي ، ازمة وقود السيارات لايظهرها في شكل شكوى وصراخ ولكنه يظهر اولادا صغارا وهم يقومون بهذا العمل على اطراف الشوارع ، واما الجندي الأمريكي السابق فهو يعيش حياة هانئة وديعة مع زوجته وطفليه في بيته الواسع ، ولكنه لاينسى حياته في العراق ولو للحظة ولا تغيب عنه ذكرياته هناك ، هو يعلن براءته من كل ماكان من تبعات الغزو وانه وفريقه كانوا يقومون بمهمات انسانية لم تستغرق اكثر من عام واحد عاد على اثرها الى بلده ، وهو له وجهة نظر خاصة في كل ماجرى للعراق انه خاطئ تماما ، وهو يشعر بالقرف والحزن وتأنيب الضمير ، احساس لم يخفه ابدا بل ظل يردده مرارا …وينتهي الفيلم بنسف سيارة المترجم وتلقي صديقه الأمريكي الخبر بمزيد من مشاعر الصدمة والأسف .

قصة غزو العراق
مما لاشك فيه ان صور الغزو والأحتلال والدبابات والمجنزرات وهي تدخل شوارع بغداد كانت وستظل علامة فارقة لتحول فريد في مسار التاريخ ، لكن تكرارها بالشكل الذي ظهرت عليه لم يعد في خدمة العمل الفيلمي اما هذا الفيلم فأنه يقدم ذلك الجندي الأمريكي الذي لايخفي سخطه والمه من كل ماجرى لكنه مايلبث ان يعمق ذلك بأضافة شخصية اخرى وهو صديق الجندي وبرتبة اعلى منه والذي يروي بوضوح انه هو وغيره ذهبوا متحمسين الى العراق في اعقاب واقعة الحادي عشر من سبتمبر وانهم ذهبوا لمنع الخطر عن بلادهم الولايات المتحدة ، ولهذا فأنهم ذهبوا الى هناك تحت  تأثير  اسباب ثلاثة وهي : اولا ، الزعم بوجود اسلحة الدمار الشامل وثانيا ،الزعم بعلاقة النظام العراقي السابق بتنظيم (القاعدة) والثالثة هي دكتاتورية الرئيس العراقي السابق .
ويؤكد ذلك الضابط انه الى الآن لم يثبت ولو بدليل واحد وجود اي من السببين الأولين اي عدم وجود اسلحة  دمار شامل ولا صلة بتنظيم القاعدة ولهذا فأنه يشعر انه قد تم خداعه لكنه يضيف ان وجهة نظره هذه مازال من الصعب اقناع الكثيرين بها لكنه هو شخصيا وآخرون مقتنعون بها تماما .
يشكل الفيلم عبر هذه الشهادة الأنسانية الصادقة وثيقة مهمة وموضوعية في محاكمة حقبة مؤلمة من تاريخ العراق كان ثمنها باهضا بتخريب العراق وقتل مئات الألوف من المدنيين الأبرياء من ابناءه.
ولعل نقطة القوة في هذا الفيلم انه لم يستدرج الأخبار والمعلومات الأعلامية المتداولة لدعم وجهة النظر بل ترك للشخصيات ان تروي اشياء مما تختزنه الذاكرة وذلك خلال جلسة حوار ودي بين الصديقين الأمريكيين مايلبثان ان يذهبا بعيدا في قراءة سياسية رافضة وساخطة على كل ماجرى .
ترافق كاميرا عامر علوان الشخصيات بموضوعية وهي تتنقل من مكان الى آخر ، ترافق الجندي الأمريكي عائدا بسيارته الى بيته في الليل في لحظات بوح اكثر انسانية واعترافات شخصية ولاتكتفي تلك الكاميرا اليقظة بذلك بل تجدها وهي تتسلل الى الحياة التفصيلية للجندي وحتى الى غرفة نومه وهو مع زوجته وهو يروي لها كوابيسه المؤلمة وخاصة كابوسه الأخير الذي واكب اغتيال  زميله المترجم العراقي السابق .
كأن ذلك الجندي قد ترك في العراق توأما انسانيا له ، وهي حقيقة ملفتة للنظر حقا لأنه عبر بعفوية وبلا ضجيج او ادعاء عن مشاعره ومواقفه وفي كل مرة كان تفاعله مع صديقه المترجم البعيد من ابرز مايلفت النظر في تلك القصة .

                            المخرج عامر علوان اثناء العمل على فيلمه

صورة امريكا / صورة العراق
تتناوب الصور الوثائقية لحياة مكتظة في الشوارع الأمريكية ومظاهر حياة استهلاكية تتجلى في الشاشات العملاقة وصور الأعلانات ، كل شيء يسير بهدوء ،  لأن هدوء امريكا ثمنه جحيم العراق وهو الهدف المرئي وغير المرئي للحملة البوشية ، حيث في الوقت الذي تدب الحياة هناك ، فأن حياة اخرى ملأى بالمعاناة تتفجر ممثلة  في الواقع العراقي ، حقيقة لايختلف عليها اثنان والمخرج لايريد تكرار ماهو معلوم ولكنه بث صورا وثائقية حقيقية لأشد اللحظات تفجرا واهمية كمشاهد دخول بغداد واجتياح المتحف العراق وعبور جسر الجمهورية وغيرها وكان في بث تلك الصور قد حقق عنصرا تعبيريا هو ارتكاز الفيلم على ارضية صلبة من الحقيقة الدامغة دون ان يزج موقفا ايديولوجيا بل ترك للمشاهد وخاصة الغربي ان يراقب مايرى ويقرر موقفه عما يراه ، وهي مسألة مهمة تحسب للمخرج في تجاوزه المباشرة والصراخ والكلام بالنيابة عن المشاهد او تلقينه ، ترك تلك الشهادة المأساوية عن الحرب ان تتجلى بقوة من خلال الشخصيات ،” ديار ” المترجم المغلوب على امره الذي يمضي ايامه حذرا متخفيا ولا تعرف سبب التحاقه بذلك العمل الخطير لكن واضح ان لاعمل لديه ولهذا يلجأ الى ان يكون سائق سيارة تاكسي بعد خروجه من عمل الترجمة وهو الوجه العراقي للصورة في مقابل الجندي “فرانك اوفاريل ” الذي يقدم التحاما مع صورة وواقع ديار لأنه حتى وان كان جنديا تحت امرة قادته ، قادة الحملة ضد العراق الا انه كان نموذجا للأنسان اليقظ الضمير وربما كان صديقه العراقي ديار سببا في تلك اليقظة التي عبر عنها مرارا وهو الذي كان بإمكانه نسيان او تناسي ذلك المترجم بمجرد عودته الى بلاده وانتهاء مهمته في العراق ، ولكنه لم ينقطع يوما عن تلك الذكرى وهو امر استثنائي ملفت للنظر حقا . 
في المقابل نجد ان موقف ورؤية صديق ذلك الجندي وهو الصديق الأمريكي “جول هيكي” والذي ذهب متطوعا في تلك الحرب سيئة الصيت باحثا عن الكذب او الحقيقة التي اشاعتها ادارة الليكوديين الجدد  بزعامة جورج بوش وخدعوا بها الشعب الأمريكي بل خدعوا بها العالم كله وخاصة في موضوع اسلحة الدمار الشامل وصلة النظام العراقي السابق المزعومة بتنظيم القاعدة وخلال عام واحد اكتشف هيكي تلك الأكاذيب فقفل عائدا ونادما على مشاركته في تلك الحرب ومعترفا بوضوح انه وآخرون قد تم خداعهم .

شيء ما عن ارض بابل
تشكل ارض بابل محورا مهما في الفيلم فالقاعدة الأمريكية التي خدم فيها الجندي فرانك وزميله هيكي كانت في مدينة بابل ومن هناك يتعرف على المترجم ديار الذي يعرفه ببابل تاريخا ووجودا وحضارة ، وتجد من بين مشاهد الفيلم ضابطا امريكيا وهو يروي لجنوده في جو مغبر وساخن تاريخ حضارة بابل وتاريخ الكتابة المسمارية وانهم يقفون اليوم على تلك الأرض التي ظهر فيها الأنسان وبنى الحضارات ، ومن الملفت للنظر ان الضابط يلقي درسه على جنوده مستشهدا بقطعة من الفخار عليها نقوش الكتابة المسمارية ملقاة على الأرض وقرب اقدام اولئك الجنود الذين كانوا يصغون بأهتمام لما يلقى على مسامعهم .
وتجد تعليقات الجندي فرانك تمضي بنفس الأتجاه في ادراك اهمية بابل وعظمة تاريخها فيما هي ترزح تحت سرفات الدبابات التي زلزلت تلك المباني الأثرية .
يقف “ديار” هو الآخر مستذكرا صديقه الجندي الأمريكي على مشارف بابل ومرددا حكمة تعود الى النبي موسى عليه السلام وهي انه سأل الله فيم عاقب قومه كلهم لم يستثن منهم احدا ، فيرد عليه اذهب ونم تحت تلك الشجرة وستجد الجواب ، فلما يذهب الى هناك وينام يتكاثر الدود عليه ومن حوله فيبدأ بالضرب عشوائيا دون تمييز ايا من الدود قد آذاه او من لم يؤذه …
تحضر بابل في الفيلم وتصبح حلقة وصل اخرى بين الشخصيات ، لكون الجندي فرانك سيكتشف تلك الأرض من خلال علامة حضارية وارث انساني صار مستباحا ومدنسا بدبابات الغزاة لاسيما بعد الغزو والنهب والتخريب ..

بناء جمالي وتعبيري
خدمت  الفيلم عناصر مهمة ، فمثلا هو  ترك لحوار الشخصيات ان يمضي موضوعيا وهادئا ولم تطرأ على الشريط الصوتي اضافات من موسيقى او غناء تقليدي من حيث هي لازمة من الرتابة التي  يقع فيها كثير من المخرجين العراقيين ولكن الملفت للنظر مما اضاف عنصرا مهما للفيلم هو استخدام الحوار والحديث المباشر وقراءة الرسائل المتبادلة بين المترجم والجندي فضلا عن استخدام اغنية امريكية تدين كل مايجري .
لاشك ان الفيلم اجتمعت فيه عناصر الصورة الوثائقية الدالة والعميقة التي تحركت فيها الكاميرا بانوراميا لنقل الحقيقة ومن دون ان يثقل على المشاهد باجترار  وتكرار المعلومات المعروفة.
فيلم “وداعا بابل” ، هو فيلم مميز حقا في بنائه وموضوعه وتكامل عناصره التعبيرية وهو شهادة ادانة بليغة ومؤثرة لجرائم الحرب ضد العراق والعراقيين وهو ينطق بلسان امريكي فصيح عن حقيقة ماجرى ويجري في العراق من طرف شهود عيان حقيقيين شهدوا وعاشوا كل شيء.
وفي واقع الأمر ان هذا الفيلم ربما يكون وبجدارة وثيقة لمخاطبة الرأي العام الغربي بشكل خاص ومن دون ضجيج ولا افتعال ولا “بروباغاندا” بل بمصداقية ووضوح وموضوعية وذلك عنصر مهم من العناصر القوية التي ميزته ،  فالناشطون في مجال حقوق الأنسان والمعنيون بما جرى ويجري سيجدون في هذا الفيلم وقائع تستند الى  الصدق والموضوعية .
في الأخير وتجسيدا لوداع بابل فقد ودعها الجندي الأمركي الذي احبها عائدا الى دياره وودعها المترجم “ديار” حيث جرى اغتياله ..وقالت الناس والبشرية لبابل وداعا من فرط ما طالها من تخريب وتدنيس واسرقة واهمال ..


إعلان