افلام لهيرزوغ و بناهي في جديد الصالات التسجيلي
محمد موسى – أمستردام
من بين مجموعة الافلام التسجيلية التي تعرضها حاليا صالات سينمائية في عدة دول اوربية، يحظي فيلمان باهتمام اعلامي و نقدي كبيرين ومنذ بدء عروضهما العالمية الاولى في الاشهر القليلة الماضية ولاسباب شديدة الأختلاف. ففيلم “هذا ليس فيلما” للمخرجين الايرانيين جعفر بناهي و راسلوف محمد، جاء كمفاجاة كبيرة للجميع، ليس فقط بسبب ما يكشفه الفيلم من محنة المخرج الايراني جعفر بناهي، ولكن بسبب وجود “الفيلم” ذاته، والذي جاء عرضه الاول متزامنا مع حملات اعلامية عديدة، قامت ببعضها مهرجانات سينمائية اوربية، لاطلاق سراح المخرج الايراني، الذي تلزمه السلطات الايرانية منذ عام تقريبا على البقاء في بيته، كعقوبة بديلة عن السجن، اضافة لقرار منعه من ممارسة العمل السينمائي لعشرين سنة قادمة. فلم يكن احد يعرف او يتوقع بان المخرج الايراني المحبوس مشغول بتصوير فيلم جديد، وان هذا الفيلم سينجح، رغم الرقابة الأمنية المفروضة على المخرج، من الوصول الى مدينة كان الفرنسية (مخبئاً بقطعة كيك، كما تقول احدى الروايات)، ليكون احد افلام الدورة الاخيرة من مهرجان كان السينمائي.

أما الفيلم الآخر (الى الهاوية: قصة للحياة، قصة للموت ) للمخرج الالماني المعروف فيرنر هيرزوغ فعرض في ظروف طبيعة للغاية، لكنه وكحال معظم اعمال المخرج، نال على نصيب وافر من الاهتمام العالمي، والذي يعود ايضا الى موضوعة عقوبة الاعدام والتي يتناولها الفيلم التسجيلي، والذي عرض لاول مرة في الدورة الاخيرة لمهرجان برلين السينمائي في شهر فبراير الماضي. علما ان النسخة التي عرضت وقتها ، وتعرض حاليا في الصالات الاوربية تقدم جزءاً محدودا فقط من مشروع تسجيل شهادات محكوميين بالاعدام امريكيين ينتظرون تنفيذ العقوبة ينشغل عليه المخرج الالماني في الاعوام الاخيرة، حيث ظهر من المشروع نفسه برنامج تلفزيوني بعنوان (المحكمون بالاعدام) ، والذي يعرض حاليا على شاشة القناة الرابعة البريطانية وعدة قنوات تلفزيونية اوربية اخرى، مقدما سجناء آخرين لم يظهروا في الفيلم التسجيلي .
تهمين شخصيتا فيرنر هيرزوغ و جعفر بناهي على افلامها الجديدة، في “هذا ليس فيلما” نقترب كثيرا من بناهي، المحبوس في شقته الفسيحة الواقعة في احد الاحياء الغنية في العاصمة الايرانية طهران، غير قادر على الخروج من باب البناية، لكن الاهم، هو عجزه عن العمل في المهنة التي يعشقها. هو لذلك يختار، ان يشرح لنا، نحن، الذين ربما لن يتسنى لنا ابدا مشاهدة فيلم جديد لصاحب “اوفسايد”، مراحل اخراج فيلمه القادم ، والذي يقدم قصة عن فتاة محبوسة في شقة ايرانية ( ثيمتا العزل والاختناق تكررتا كثيرا في افلام المخرج). كما يستعيد ومن خلال اسطوانات، مشاهد من افلامه السابقة، ويقدم تفاصيل وشروحات، تقترب من الدرس السينمائي الفريد لواحد من ابرز مخرجي السينما الايرانية المعاصرين.
إستغراق المخرج الايراني بشفعه السينمائي ، تقطعه احيانا تفاصيل الحياة اليومية، ومخاوف من انكشاف “سرية” عمليات التصوير، واحيانا خواء جعفر بناهي الشخصي، ففي واحد من اكثر مشاهد الشريط الوثائقي تأثيرا، يلتفت المخرج للكاميرا، ليشكك في جدية المشروع التوثيقي بأكمله، فالافلام “لا يمكن شرحها بالكلمات” ، يتحدث المخرج بجزع كبير لكاميرا زميله المخرج الايراني راسلوف محمد.
بدوره يواصل الالماني فيرنر هيرزوغ سبره لاغوار النفس البشرية، فبعد فيلمه الرائع “كهف الاحلام المنسية” والذي صور بنظام الابعاد الثلاث وعرض العام الماضي، والذي حاول الاقتراب من هواجس ومخاوف بشر عاشوا قبلنا بالآلف السنين من خلال محاولة فهم رسوم تركوها في احد المغارات الفرنسية، يركز فيلمه التسجيلي الجديد تلك المنطقة السوداء من “الروح”، والاخيرة هي الكلمة الاشد قربا من المخرج الالماني، لذلك لم يتوقف ابدا عن استخدامها، مع محكومين بالاعدام تفصلهم ايام معدودة عن الموت، او سجانين يشرفون على عقوبات هؤلاء السجناء.
يكشف المخرج الالماني وفي المشاهد الافتتاحية من فيلمه التسجيلي ، عن موقفه الرافض لعقوبة الاعدام. كما يصرح للسجناء بانه ليس من الضروري ان تربطه علاقة مودة معهم، لكنه، وهو السبب الذي دفعه للقيام بالمشروع التسجيلي، يملك تلك الرابطة الانسانية مع البشر جميعا ، ومنهم المحكومين بالاعدام، وهي المشاعر التي لا تنطلق بالضرورة من موقف ديني للمخرج.

ينكر المتهمان الجريمة البشعة التي وقعت في شتاء عام 2001 ، وأدت لمقتل 3 امريكان . هذا الانكار يقطع الطريق للحديث عن الجريمة مع المحكومين ، ليعود الفيلم لتسجيلات الشرطة للجريمة ، ليس لغرض التحقيق الصحفي العادي ، بل ليكمل الصورة القاتمة عن الجريمة ، خاصة عندما يعرض الفيلم تلك التسجيلات التي سجلتها الشرطة الامريكية من مواقع الجريمة ، وبعد ساعات من حدوثها ، والسكون الذي يحيط وقتها بكاميرا الشرطة المتحركة ، والمهمومة وقتها بالتوثيق ، لتثير استعادتها ضمن تركيبة فيلميه مختلفة الكثير من الجزع .
كذلك يقوم المخرج بمقابلة أفراد من عوائل ضحايا الجريمة ذاتها ، مع مقابلات مع سجانين سابقين ، اضافة الى مقابلة مميزة مع موظف امريكي حكومي ، يقوم بدفن الذين يتم اعدآمهم ، عندما لا يوجد من يقوم بذلك من اهلهم. تلك المقابلة تكشف الاسلوب الفريد الذي يسير عليه فيرنر هيرزوغ ، فبينما كان الموظف مشغول بترديد عبارات جاهزة تقريبا عن عمله ، فاجأه المخرج بسؤال عن السنجاب التي تنتشر في المنطقة ، ليقوم الموظف الذي تجاوز العقد الخامس من العمر بالحديث عن حادثة وقعت قبل اسابيع ، وكيف كاد ان يدهس بسيارته مجموعة من السناجب في طريقه الى المقبرة. تذكر هذه الحادثة ستزيل الصدء عن “روح” الموظف ، الذي تتفجر دموعه على الحيوات العديدة المهدورة التي دفنها بنفسه في قبور بدون اسماء ، في مقبرة المحكومين بالاعدام.
لا يتحول الفيلم الى مناكفة جديدة بين رافض ومؤيد لعقوبات الاعدام، كما لا يحاول الفيلم ان يستقصي جرائم السجناء المشتركين في الجريمة التي يركز عليها الفيلم، حتى يصل الى نتائج وخلاصات خاصة، هو ياخذ المسافة النفسية المناسبة من الحدث والمشتركين فيه، ليطرح اسئلة، معظمها تشغل المخرج الالماني منذ سنين، عن “الروح “، غموضها ومناطقها السوداء المعتمة وتجلياتها ايضا، وما الذي يدفع البعض للقيام بالافعال التي يقومون بها. وحتى من تلك المسافة الخاصة التي فرضها الفيلم، يوفق في تحقيق توازن تتطلبه توقعات مشاهدين مقسمين في التعاطف بين الضحية والقاتل، وينسف، اي الفيلم، وبدون الدخول الى جدالات نظرية، كل الاسس التي يرتكز عليها انصار عقوبة الاعدام ، برفعه شأن الانسان ، لكن هذا “الانسان” مهما أرتفع مقامه ، لا يصلح أن يصدر أحكام بالفناء على آخرين.