حين ينتحل الصحافي شخصية “السفير” ليصنع وثائقيه


قيس قاسم ـ السويد

قصة الصحافي  والمخرج الدنمركي مادس بروغر في جمهورية أفريقيا الوسطى غريبة، وتكاد لا تصدق، فمن أجل أن يفضح الفساد واستغلال السلطة البشع للموارد الطبيعية في هذا البلد، إنتحل شحضية “سفير” دبلوماسي معتمد لديها كممثل رسمي لجمهورية ليبريا. وحتى يكمل دوره ويغطي على خطته في شراء الماس الأحمر وتهريبه عبر الحدود بطرق غير مشروعة، ليكشف عبرها عن أخطر الشبكات العالمية المتعاملة بتجارتها، إدعى أنه، والى جانب وظيفته الدبلوماسية، رجل أعمال يريد بناء مصنع لصناعة الشخاط سيستفيد منه بالدرجة الأولى فقراء جمهورية “قلب أفريقيا”.

لكن كيف يمكن للصحافي وبهذة البساطة إنتحال شخصية سفير دبلوماسي؟ الجواب على هذا السؤال جاء على شكل فيلم وثائقي مثير سُجلت معظم مَشاهده بكاميرة ميكرو ديجيتال كان يخفيها بروغر داخل اكسسوارت ملابسه الأنيقة، وفي هذة الحالة سيصعب الحديث عن جماليات سينمائية وبصرية بقدر ما يحيلنا “السفير” وعنوانه يحمل في طياته دلالات كثيرة، الى البحث في مفهوم “المغامرة الإبداعية” الناشدة  كشف الحقيقة، والتي قد تُوصل صاحبها، أحياناً، الى حافات الهاوية. فبروغر، وفي لحظة، كاد أن يفقد حياته حين  تجاوز، قليلاً، إشارات التحذير من خطر الإقتراب من تجار الماس وعصاباتهم. أولى خطواته لكسب لقب “دبلوماسي حر” بدأت بالتحرك نحو مدينة كويميرا البرتغالية لمقابلة الأخوين إيفنس، وهما من الجيل الثاني من الوسطاء الخاصين بمنح لقب سفير للّذين يرغبون في الحصول على هذا اللقب مقابل دفعهم مبالغ كبيرة من المال. لقد طلب كولين أيفنس من الصحافي مبلغ 135 ألف دولار مقابل جواز دبلوماسي، مع شهادة تخرج من كلية التجارة بدرجة ماجستير من جامعة مونروفيا بالإضافة الى إجازة سوق سيارة. وكان له ما أراد! والآن بوصفه رجلاً أبيضاً يحمل جوازاً دبلوماسياً سيتمكن من الذهاب الى دولٍ أفريقية ويخرج منها بحقائب مليئة أموالاً وبضائع مهربة غالية الثمن دون تفتيش. بقيت خطوة واحدة كي يصبح دبلوماسيا معيناً وسيحلها له الهولندي ويليم توسين الذي يدير “وكالة الخدمات الدبلوماسية الأفريقية” وعبرها سيرتب له تعييناً دبلوماسياً في جمهورية ليبريا الفقيرة والمحتاجة الى إستعادة توازنها بعد حرب أهلية طالت طويلاً وينقصها المال. لقد أصبح الصحافي الدنمركي دبلوماسياً، له كامل القدرة على التحرك وسط عالم سفلي غامض. وكما قال في أول اختبار لآلات تسجيله السرية قبل إقلاع طائرته الى العاصمة بانغي “هنا ستنتهي

حياتي كصحافي دنمركي، وستبدأ هناك حياة ثانية بمقدوري العمل فيها خارج كل الحدود الأخلاقية”، أو كما يقال؛ حياة دبلوماسي غربي  منحط في أفريقيا، جاء ليسلب ثروات شعوب العالم الثالث. ربما تُلخص عبارته غاية وثائقيه الذي أراد كشف الدور الأخلاقي المزدوج للغرب وسياسته في أفريقيا، وسيقودنا تسلسل أحداث “السفير”، الى إستنتاج خطير مفاده: أن خيوط إدارة اللعبة في الكثير من دول القارة السوداء، وبخاصة التي خضعت للسيطرة الاستعمارية لمدد زمنية طويلة ما زالت بيد “البيض” كما هي الحال في جمهورية أفريقيا الوسطى، فالفرنسيون مازالوا يسيطرون على أهم مراكز الدولة وشرايينها الحيوية، خلف الكواليس، فيما يحكمها في الظاهر قادة وطنيون يتصارعون على الحكم ويدخلون في حروب أهلية طاحنة، كما نقلت كاميرات “السفير” عن الجندي الفرنسي المرتزق والذي تولى مسؤلية الأمن في جمهورية أفريقيا الوسطى لسنوات طويلة غوي ـ جين لي فول ياماند: الدولة مازالت وبدرجات كبيرة تُدار من قبل فرنسا. وأكمل بورغر الساخر، الوصف: هذة الدولة مثل سيارة تقودها مجموعة من المجرمين الخارجين عن القانون!.
الماس والذهب من أكثر الثروات الطبيعية في جمهورية أفريقيا الوسطى وهما مثل مغناطيس يجذب دوماً البيض بقوة، بخاصة من حملة الهويات والألقاب الدبلوماسية المزيفة. كما أن غنى المنطقة المجاورة لها المسماة “مثلث الموت”، سيبقى مصدراً لإغواء المستعمرين الفرنسيين الأوائل وأيضاً أباطرة المنطقة الصاعدين حديثاً. وما يكشفه الوثائقي من جديد؛ ظهور الصين كقوة منافسة وهي بالشكل الذي وجده الصحافي تمثل مصدراً لبداية نشوب حرب باردة بين الغرب وبينها ولهذا تجدهما يتصارعان على كسب مناطق نفوذ لهما عبر إفساد مزيد من حكام هذة الدول، لتتحول هي نفسها الى آلة تفقيس  للصوص محليين، فاسدين ومفسدين وهي من يشجع المزيفين على لعب أدوار وسيطة يرسمون حدودها مسبقاً، وهذا ما إكتشفه الصحافي بورغر بنفسه حين وجد نفسه متورطاً وقريباً من الموت عندما وَقَع على عقود شراء ماس أحمر لم يعرف بأن اللصوص السود قد تعلموا من آبائهم البيض غير الشرعيين طرق التلاعب بها دون وقوعهم في مشاكل قانونية. لقد صنعوا لأنفسهم نظاماً قانونياً وإدارياً يؤمن لهم سلاسة سرقة ثروات البلاد لحين مجيء ديكتاتور جديد عبر إنقلاب عسكري ويطردهم. من مفارقات “السفير” الغربي الليبرالي أنه وجد نفسه يتعامل في مناخ متعاطف مع الرئيس السابق بوكاسا، أكثر قادة  أفريقيا الوسطى بغضاً في الغرب، والذين أطلقوا عليه لقب: آكل لحوم البشر. أما القادة أو ورثته الفاسدين فلا يترددون عن وصفه برجل الإصلاح والقائد الوطني الذي أراد تخليص البلاد من الفساد ومن حكم الفرنسيين لها خلف الكواليس!.

بعيداً قليلاً عن اللصوص، من كل الألوان والأشكال، أراد بورغر نقل الأثر القاسي الذي تتركه الوعود بتحسين أحوال الفقراء على أبناء البلاد المصدقين لها. فكل من يأتي اليها كان يعلن “كذباً” كما فعل بورغر تماماً،  بأنه سيبني مشروعاً يحسن به أحوال عامة الناس، وهذة المرة كانت بعض “قبائل الاقزام” ضحية وعده. لقد غذى فيهم أمل المشاركة والعمل في بناء مصنع الشخاط، فأيدوه وساندوه ولكنهم وفي النهاية لم يخرجوا إلا بوعود فارغة. الصور التي أخذها لهم وهم يراقبون ما يجري أمامهم من “مسرحيات” أبطالها مرتزقة وقتلة كانت كافية لنقل الحزن الشديد الذي إستقر في دواخلهم. وما دمنا قد وصلنا الى الأدوار وإتقان لعبها فلابد من القول أن دور السفير المزيف الذي لعبه مادس بورغر، كان مقنعاً ليس للجمهور، فحسب، بل لكل الذين تعامل معهم في أفريقيا، لقد بدا حقيقة مثل سفير غربي بكل التفاصيل، والقصة نفسها على مستوى كتابتها وتنفيذها تذكرنا بقربها والى حد كبير بفيلم “ماسة الدم” الذي لعب دور بطولته الممثل ليوناردو دي كابريو، وأحداثه تدور عن تجارة الماس غير الشرعية في سيراليون، مع فارق كبير أن قصته كانت من نسج الخيال في حين كان فيلم “السفير” الوثائقي من صلب الواقع!

 “السفير”عُرض ضمن البرنامج الدنمركي في الدورة ال14 لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية  
 


إعلان