الأسلوب التأمّلي كوسيلة تفعيل

محمد رُضا

سنوات ضوئية كثيرة بين البيئة التي أنبتت انطونيوني، أنجيلوبولوس، تاركوفسكي، مالك، كوروساوا، إيتشيكاوا، كوزنتسيف، زوخوروف، ولز، هيتشكوك، يازوجيرو، برغمن، غودار، تروفو، غريفيث، تاتي، كيتون، تشابلن، بونويل، كلير، فورد، هيوستون، أندرسن، شلنسجر، راسل، فيلليني، زيفريللي، وايز، فاسبيندر وأستطيع أن أضيف مئتين آخرين فوق هؤلاء من الذين لم تكن السينما فناً لولاهم، وبين الحفنة العربية من السينمائيين التي صنعت الإبداع نفسه او قريباً منه. الإختلاف الشاسع هو أن البيئة الأولى تنفسّت الحرية مع الأكسجين في وقت واحد وبأنف واحد، بينما الثانية كان عليها أن تجهد في سبيل تحقيق ما تريد وحين لم يكن عليها أن تفعل فإن السبب كان كامناً في انفتاح الدولة الى القدر الكافي للسماح للأبداع أن يمر.
هذا هو السبب الذي من أجله استطاع المخرج  الأجنبي تجاوز الأمس وحديث الحضارات الدؤوب الذي لا يمكن له أن يتبلور عن أكثر من درس في التاريخ، ويواصل بناء حاضر هو ذاته حضارة المستقبل. أفلام هؤلاء في الخمسينات والستينات والسبعينات، وأفلام مخرجين آخرين يعملون اليوم، هي بنيان يومي في وجدان المشاهدين ومساهمة في مواصلة حضارة الفن السابع الأكثر ظهوراً وتأثيراً من سواها بسبب ما يتمتّـع به الفيلم من قدرات وعناصر.

                                 المخرج محمد خان

والعملية ممتزجة بحيث لا يمكن فصل أي عنصر منها عن الآخر. 
لكي يفكّر ترنس مالك بتحقيق فيلم من نحو ساعتين وعشر دقائق بتخصيص نصف المدّة لتصوير كوني يشمل الحياة على الأرض وفي السماء وفلسفتي الزمن والنشوء وليوصل تلك الرسالة الروحية المتّصلة بجوهر الدين (كما فعل تاركوفسكي من قبل) اعتمد على عاملين: جوّاني جبلته الثقافة المنفتحة واستقلالية الرأي وما نشأ عليه من أوجه الحرية المختلفة، وخارجي مفاده وجود جمهور مختلف يفهم المقاصد الفلسفية والشعرية والجمالية والروحانية وافق عليها او لم يوافق، ويرغب في مشاهدة أعمال تنحو بالمواضيع صوب لغات فنية منفردة. كلاهما، الداخلي والخارجي في العملية، لم ينشآ بقرارات ولا في دول ألزمت المواطن الفرد باتباع طريقها الخاص، بل ولم تفعل، في الأساس، أكثر من احترام حق الإنسان في حرية الرأي وحماية ذلك الحق بتجنيبه وطأة المتغيّرات السياسية. فالحكم هنا قد ينتقل من اليسار الى اليمين، او العكس، لكن حرية القرار والتفكير والإبداع لا تتأثر الا بالعوامل الاقتصادية وحدها.
في  الفيلم التركي «ذات مرّة في أناضوليا» لنوري بيلغ شيلان مشاهد كثيرة لثلاث سيارات تشق ظلام الليل في هضاب وسهوب الأناضول في رحلة تطول لتشمل ثلثي الفيلم. تلك اللقطات الطويلة تبدأ كما لو كانت تبحث بدورها عن طريقها للوصول الى المشاهد، لكنها لا تبحث طويلاً، سرعان ما تتآلف والذين يدركون أن العمل آيل الى عرض مشبع بتفاصيل الحياة والنفس البشرية تحت سماء بحث مواز لشخصيات الفيلم في ظاهره عن جثة ميّت، وفي فحواه عن حقيقة السلوكيات البشرية. هذا بدوره لم يكن ليتم على هذا النحو لو لم تكن المعطيات الاجتماعية والثقافية متوفّرة لطرح الفيلم أسلوباً ومضموناً.

حين البحث عن المقابل العربي، نجد أن الملمّـين بالأسلوب التأمّـلي كوسيلة تفعيل ذاتية لرصد الحياة والابتعاد عن التقاليد، فنية كانت او فكرية، إما مبعدون وإما يعانون من شح التمويل.  نتيجتان متلازمتان في مجتمعات تتعرّض فيها السينما الى هجوم مركّز: لا النظم تريدها لأنها “تنوير”، ولا الجماعات الدينية ترغب بها لأنها تعتبرها “حراماً”، ولا رجال الأعمال يعيرونها أي اهتمام لأنها “غير مربحة”.  

                                من فيلم شجرة الحياة

لقد تم تفريغ السينما من احتمالاتها بعدما تم حظر التعامل مع المواطن كإنسان له الحق في المعرفة. لذلك ما كان على النظم الموجودة سوى إحكام الغطاء على ذلك الصندوق بتحويل مؤسسات السينما من خادمة لفن السينما الى مرشد له. المشترك الوحيد بين معظم المخرجين المغيّبين عن العمل بصورة مستمرة في الدول العربية التي سبق لها وأن انتجت أفلاماً، مثل محمد خان وداوود عبد السيد ومحمد ملص وأسامة محمد وبرهان علوية (رغم أن بعض هذه النماذج لديها أسباباً شخصية تساعد في إبعادها)، هو أنهم لا يستطيعون القبول بأسلوب سرد قصصي يلتقي مع الغالبية، بل سينماهم هي انعكاسات ذاتية وبالضرورة أسلوبية وفنية، ما يعني أنها مُـصادرة من قبل أن تنتقل من الورق الى الفيلم. السبب في أن محمد خان لم ينل الجنسية المصرية إلى اليوم، رغم حقّه فيها ورغم أن آخرين ولدوا في مصر من أم مصرية قد نالوها، لا يعود إلى أنه سقط ضحية تجاهل او تناس او مجرّد غض نظر، بل إلى أنه فكّر ومارس فنّه خارج الصندوق كما لا ترغب آلية النظام السابق منه ومن سواه أن يفعل. هي لم يكن لديها خيار حيال مخرج تواصل مع الغرب من قبل وأثبت انفراده وقدراته مثل يوسف شاهين لكن لديها خيار مع مخرج لم ينجز هذا النطاق من التسويق والتأييد الغربيين.
المسألة تبدأ من الماضي الذي سيطر على اتجاهات الحاضر الذي سيسيطر على اتجاهات المستقبل أيضاً سواء تغيّر الوضع لصالح العمل السينمائي الإبداعي او بقي على حاله. وما علينا  فهمه هو أن العديد من السينمائيين العرب محاصرين ليس سياسياً او رقابياً في الأساس، بل بالصناديق التي وضعوا أنفسهم فيها. صناديق قد لا تتراءى لهم، لكنها بالتأكيد موجودة وهم في وسطها.
هذا ما يجعل الفرحة بوصول الفيلم العربي إلى مسابقة كان مجدداً كبيرة وحذرة في الوقت ذاته. من ناحية فعل استحقاقي مهم، ومن ناحية ثانية مبعث لسؤال حول كم سنة ستمر قبل أن نجد فيلماً عربياً آخر في هذا النطاق؟.


إعلان