“انفصال”.. فيلم إيراني مجتمعي يحصد الأوسكار
لا يكتسب الفيلم الايراني “انفصال” للمخرج “أصغر فراهادي” قيمته من حصوله على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2012فقط ولكنه يتجاوز ذلك الي تلك المفارقات المدهشة التي تعرض لها حيث منع عرضه في ايران وفي مصر أيضا .
واذا كان المنع هو السنة السائدة في عالمنا الاسلامي فقد أصبح الأمر أشبه بسلوك النعامة اذ تدفن رأسها في الرمال بينما يتقدم اليها المهاجم متصورة أنه لن يراها بينما هي من لا يراه فالأفلام والمطبوعات وغيرها أصبحت متاحة للجميع في أي مكان في العالم وفي اي وقت بفضل ثورة التكنولوجيا التي أزالت امكانيات المنع والمصادرة الي حد كبير .
ويرقي فيلم “انفصال ” لأن يصبح وثيقة اجتماعية للحظة الايرانية الحالية حيث تضيء المنطقة المسكوت عنها في انعكاس السلوك السياسي منذ ما قبل الثورة الاسلامية مرورا بها وحتي الان علي المجتمع الايراني الذي أصيب بفصام حاد بين طبقاته من جهة وبين أجياله من جهة أخري وبقدر ما يستعرض السيناريو نوعا من الصراع الطبقي لا يرقي للمستوي الايديولوجي ويظل يدور حول محور سلوك الأفراد في صراعاتهم اليومية دون وعي جماعي بالفكرة الطبقية فانه يصنع توازيا بين أسرتين تدور بين كل من الزوجين فيهما صراعات مختلفة نوعيا ويرصد الصراع بين الأسرتين باعتبار أن كل منهما تنتمي لطبقة اجتماعية مختلفة ويؤكد بوجود طفلة في كل أسرة علي مستقبل ينبغي انقاذه والا سيرث الأطفال صراعات الكبار في دوائر لا تنتهي .
وتدور قصة الفيلم حول “سيمين” التي تلعب دورها الممثلة ليلة حاتمي، الراغبة في مغادرة إيران رفقة زوجها “بيمان معادي” الذي يلعب دور نادر، لكن رفض الزوج لهذه السفر، بدعوى رعاية أبيه المصاب بمرض “الزهايمر” الذي لا يريد تركه وحيدا، سبّب في انفصال “نادر وسيمين”.
وهجرت “سيمين” بيتها ، وذهبت عند عائلتها، لكن متاعب بقاء الزوج مع أبيه العجوز، و ابنته التي رفض تسليمها إلى “سيمين”، تسبب في إحداث مؤلمة تركت بصماتها على علاقة “نادر وسيمين”، فالخادمة التي أتت للعمل في البيت، لم تقم بواجبها لظروفها العائلية والصحية، وهو الأمر الذي بسببه وصل صراعها مع “نادر” إلى المحكمة، بعد طردها من البيت، متهمة إياه بقتل جنينها.
ويتناول الفيلم حقائق اجتماعية مؤلمة ومريرة، يصورها المخرج في قالب درامي، و من خلال سيناريو محبوك يشبه الأرابيسك اذ ينسج بمهارة علاقات الأطراف بدفئها المحبوس والمحاصر بمشكلات قاسية لم يتسبب فيها الأفراد بقدر ما صنعتها التحولات الاجتماعية الكبري .. وطبقا لتقييم القاضي الذي يحكم بين الزوجين نادر وسيمين فانه يبلغ المرأة أن مشكلتها “صغيرة ” اذ هي ترغب في الهجرة الي خارج البلاد ويرفض زوجها تمسكا بالبقاء مع والده ( تاريخه – تراثه – ماضيه ) ويرفض أيضا منحها حضانة ابنتها ( مستقبله ) وفي الوقت ذاته فان الجد العجوز المصاب بالزهايمر قد فقد كل ما له صلة بالواقع المحيط في اشارة الي القطيعة بين ايران اليوم وايران الأمس وترفض الأم أن تنشأ طفلتها في ظروف مجتمعية ترفضها هي وتبرر سفرها بهذا الأمر وبين تطلع الأم الي مستقبل مختلف عبر عالم جديد أدركته بانتمائها الطبقي وانفتاحها وتمسك الأب بالماضي ووفائه لمعني الأبوة ورغبته في رعاية رجل يعرف هو أنه أبيه بينما لا يعرف الرجل أنه ابنه تقف الابنة حائرة وتنفصم عري الأسرة ليأتي دور الخادمة ابنة الطبقة الفقيرة التي قدمت دورها بحساسية شديدة وملامح معبرة بشكل اسر وتحاول المرأة الفقيرة التوفيق بين عملها في رعاية الجد المريض أثناء غياب ابنه في عمله وبين ظروفها الخاصة القاسية ولكنها تفشل ويشرف الجد علي الموت نتيجة غيابها الغامض عنه وينفعل الابن بشدة دافعا الخادمة بعنف خارج المنزل لترفع دعوي تتهمه خلالها بالتسبب في اجهاضها وبين جولات التحقيق يصدق زوج الخادمة زوجته ويمارس سلوكا عنيفا تجاه من سبب ضررا لزوجته وينكر الرجل بينما تقع ابنته في حيرة حيث تصدق أن والدها قد دفع المرأة بالفعل وسبب لها أذي جسدي لكن المواقف تتغير فجأة اذ تعترف الخادمة لزوجها أنها كذبت وأنها لم تكن حاملا حين دفعها الرجل .
ورغم الميلودراما التي يسببها الطلاق لا تتنازل “سيمين ” عن طلبها للطلاق وتذهب للقاضي مع نادر لتحديد من سيكون حاضنا للطفلة التي ترفض الاختيار أمام والديها فيطردهما القاضي ليسمع منها دون حرج .
ولعل “فراهادي ” كان واضحا منذ البداية في استعراضه لمشهد الجدل بين عاملين بسيطين تلجأ اليهما ” سيمين ” لنقل أثاث من الدور الثاني علوي الي الأرضي حيث يصممان علي تقاضي أجر النقل عبر ثلاثة أدوار ويغلقان عليها طريق الصعود الي منزلها لتوافق شبه مجبرة علي اعطائهما الأجر الذي طلباه والمشهد علي بساطته يؤكد علي العنف الذي يمارس من الطبقتين تجاه بعضهما وهو نفسه ما يمكن أن نلحظه عبر سلوك زوج الخادمة الذي يحاول الاعتداء بالضرب علي “نادر” في المحكمة وهو أيضا ما يمكن تأكيده حين ينفجر هذا العنف في ذات الشخص ( زوج الخادمة ) الذي يضرب رأسه بعنف في الحائط حين يكتشف كذب زوجته بشأن اجهاضها نتيجة دفع “نادر ” لها
ولعل مستقبل أطفال نشأوا في ظل صراع اجتماعي بين طبقة غنية منفتحة ترغب الخروج من واقع منغلق وصراع بين طبقتين تنتميان لعامين مختلفين علي المستوي الاقتصادي لا ينبغي أن يقرره مخرج وسيناريست لذلك ترك “أصغر فراهادي ” نهاية فيلمه مفتوحة اذ لا يحق لأحد تقرير مصير هذا الجيل والاختيار بين مستقبل منفتح علي الاخر أو منغلق علي نفسه متمسك بماضي لا يذكره سوي هذا الجيل نفسه
في فيلم ” انفصال ” حرفية مدهشة وقدرة عظيمة علي صناعة فيلم يمكن قراءته علي مستوي كونه يستعرض مشكلات اجتماعية صغيرة وتفاصيل قد يمكن علاجها عبر اصلاحات ويمكن أيضا قراءته عبر مستوي يقدمه كانذار أخير برصد حجم التناقضات التي تحاصر المستقبل وتجبر أبناءه علي الاختيار وهم دون سن الاختيار .
ويبشر “أصغرفراهادي” بمخرج ايراني لا يقل قامة عن عباس كياروستامي ومحسن مخملباف وان تميز في قدرته المدهشة علي التحليل الاجتماعي وقد ممارسة العمل السينمائي سنة 1986 بجمعية الشباب السينمائية في اصفهان، ومن 1986 حتى 2002 قام بعمل ست أفلام قصيرة ومسلسلان للتلفيزيون الوطني الإيرانى.
وقدم في عام 2003 أخرج أول فيلم روائى طويل له وهو “الرقص مع الغبار” والذي يتناول به شخصية نزار الذي يتعرض للعديد من الضغوط الاجتماعية والأخلاقية التي تجبره على تطليق زوجته لأن أمها لا تسلك السلوك القويم، ليهرب للصحراء لمعاونه رجل كهل في صيد الثعابين للتكسب منها وتسدد ما عليه من ديون.شارك هذا الفيلم في مهرجان الفجر وكذلك مهرجان موسكو لنفس العام.
أما في عام 2004 فصدر له عمل يحمل اسم المدينة الجميلة ويتحدث عن شاب يصدر ضده حكم بالأعدام وهو لايزال في السادسة عشر من عمره وحصل الفيلم على العديد من الجوائز سواء من مهرجان الفجر السينمائى أو من مهرجان وارسو السينمائى الدولي.
وقدم فيلمه الثالث الذي ظهر للنور عام 2006 وهو “الإربعاء الأخير” والذي يسرد فترة من حياة سيدة سترسل من قبل شركة تنظيف لأحد المنازل وتفاجأ بالزوجة التي تشك في أخلاص زوجها لهذا تلصق لها مهمة تتبع العشيقة وقد حصل على جائزة هوجو الذهبية لمهرجان شيكاجو السينمائى الدولي.
وفي عام 2009 صدر له فيلم بعنوان “عن إيلى” وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة الدب الفضى لأحسن مخرج في مهرجان برلين الدولي في دورته 59، كذلك كاحسن فيلم في مهرجان تريبيكا السينمائى، إيضا مثل الفيلم السينما الإيرانية في الأوسكار داخل فئة الأفلام غير الناطقة بالأنجليزية لكنه كان مجرد ترشيح.