القذافي وبن لادن في فيلمين وثائقيين

 باريس- ندى الأزهري

مطلوب “حيا أو ميتا”                                                         
ايام اخيرة دامية، علاقات عاصفة وتحالفات لم تدم، شخصيتان شغلتا العالم وكانت بانتظارهما نهاية شنيعة. ماذا جرى في كواليس  “حرب” دامت أعواماعشرة واخرى شهورا ثمانية؟ بعيدا عن الخبر اليومي العاجل تحاول الأفلام الوثائقية التعريف بالحدث و القاء أضواء متنوعة عليه، بعضها كاشف وآخر يكتفي بازالة شيء من العتمة، بعضها يعزز المعرفة  فيأتي وكأنه مجرد شهادة مصدقة و آخر يثير بلبلة في تلك المعرفة. فيلمان وثائقيان عرضا مؤخرا في فرنسا حاول أحدهما الكشف عن ملابسات القضاء على بن لادن واهتم الثاني بانقلاب التحالفات بين الغرب و القذافي. اعتمد الاثنان على الاستعانة بأرشيف غير منشور و بشهادات لمؤثرين في الحدث، في أسلوب كلاسيكي تناوب فيه عرض الشهادات مع الصور وقراءة التعليق.
“القذافي حيا أو ميتا” للفرنسي انطوان فيتكين الذي عرضته القناة الخامسة، يبين خلفيات العلاقة الصدامية والمتذبذبة بين القذافي والغرب. هذا الغرب الذي كان المؤيد بل الداعي لعودة الديكتاتور الليبي إلى المسرح الدولي بعد عزل دام سنوت، كان هو نفسه الساعي لمد يد العون لإسقاطه. بفضل شهادات لفاعلين في صنع القرار في الحرب الليبية، كسفير الولايات المتحدة السابق في ليبيا، ومحمود جبريل المسؤول السابق في المجلس الانتقالي… وغيرهم، ألقى المخرج الضوء على ثمانية أشهر من الحرب الليبية، مركزا على الغرب ومسار تحولاته من الثورة  ومن القذافي تحديدا.
“أي كلام عن احتمال للتغيير في ليبيا كان يبدو مستغربا حتى منتصف شباط” هكذا كان يظن الجميع، إلى ان أشعل الفتيل توقيف صحافي في بنغازي ورد الجيش بالسلاح على المتظاهرين. القذافي حاول الإيحاء منذ البدايات أنه غير متأثر بما يجري فيما بدا الغرب “حذرا” إلى حين اقتناعه بطبيعة الحركة وبأنها “انتفاضة شعبية قائمة على أساس وطني”. عندها بدأت المواقف الدولية من ادانة واضحة في الأمم المتحدة إلى دعوات لرحيل القذافي والحديث عن عدم شرعية النظام.
يعرض الشريط على مدى ساعة ونصف بدقة وبأسلوب مكثف ومدعم بالشهادات والصور، تفاصيل الانتقال من مرحلة استبعد فيها التدخل العسكري للغرب، لأسباب منها أنه سيثبت نظرية المؤامرة التي كان يتمسك بها نظام القذافي، إلى مرحلة المطالبة به. ويبرز دور فرنسا الرئيس في هذا القرار محللا موقف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يقرر التدخل العسكري في ليبيا وهذا على الرغم من اختلافه في الرأي مع الدول الحليفة التي كانت حذرة، من جهة لعدم معرفة جيدة بالمتمردين واخرى لعدم معرفة ما ستكون عليه ردود أفعال القذافي. هل كان موقفه نابعا، كما شعر الجميع حينها، من رغبته ” بتحسين كل ما أساء لصورته وصورة فرنسا بعد رد الفعل المتأخر على ثورة  تونس؟”، ام “ليغطي استقباله يوما “جلاد” العالم العربي”؟ مهما كانت الأسباب فساركوزي كان الرئيس الغربي الأول الذي قبل اللقاء مع ممثلين عن الثورة. ويبين الفيلم الدور المؤثر الذي لعبه الفيلسوف برنار هنري ليفي الذي زار بنغازي” واكتسب ثقة عبد الجليل” وعرض على ساركوزي لقائه” فوافق فورا” . وكان مثيرا كشف الفيلم لكيفية الاعتراف الفرنسي بالمجلس الانتقالي الليبي، كان قرارا “فجائيا”  اتخذه ساركوزي دون أن “يعلم به أحد ولا حتى وزارة الخارجية الفرنسية”.
ثم ينتقل الشريط لشرح تطورات الموقف الأمريكي، من تردد في البداية بسبب محاذير التدخل والخوف من النظر إلى الحرب” كحرب الولايات المتحدة ضد الشعب الليبي” فالعراق في الذاكرة، ثم نحو تغير في الموقف حصل بناء لعوامل منها لقاء بين وزيرة الخارجية كلينتون ومحمود جبريل، والدعم العربي لخطة ساركوزي، و تهديد القذافي باقتحام بنغازي وهو ما حفز أوباما على القبول باقتراح كلينتون و اقتناعه بالمشاركة إن قام تحالف دولي يضم الأطلسي والدول العربية.
وهنا يكشف الفيلم خلفيات القرار الدولي بالتدخل، فالموافقة الصينية والروسية كانت لأن ” ليبيا للغرب فليفعلوا ما يشاؤوا”!  وعبارة وزير الخارجية الفرنسية في الأمم المتحدة” استخدام كل الوسائل الضرورية” أتت دون استشارة العرب، واصرار ساركوزي عند بدء الحرب، على أن يكون الطيران الفرنسي هو الأول في القصف… ويعبر الشريط على تلك الفترة الحساسة التي كان فيها الشعور بالفشل والشك بالوصول إلى مخرج مسيطرا لدى التحالف. وهنا يكشف تفاصيل خطة جاسوسية اقترحها عثمان محمد على جبريل لاقتحام طرابلس” خطة بسيطة ولكن مستحيلة بدون دعم الغرب”. وقد دعمها الغرب رغم تردده حتى اللحظة الأخيرة ورغم الشكوك التي بدأت تظهر حول مرحلة مابعد القذافي وقدرة المجلس على التغلب عليه وحكم البلد بعده. كما يظهر القلق الغربي جليا من وجود أشخاص مثل بلحاج في الثورة الليبية إلى أن تتم دعوته للقاء قوات التحالف في الاليزيه. فترة لم تخلو من شد وجذب بين القذافي والغرب وبين الغرب والمجلس الانتقالي ومحاولات لمبادرة سياسية التقى فيها ساركوزي مع مستشار للقذافي. لكن كل ذلك انتهى مع اقتحام طرابلس رغم محاولة التحالف تأجيلها ورفض المقاتلين. فكان سقوط طرابلس المفاجئ ” أسرع مما كنا نتصور “بحسب مستشار الرئيس الفرنسي.

أما القذافي الذي كان يناور ويسعى لمبادرات فقد كان دائما يشكك بالغرب” وقفت مع الغرب ولكنهم جاءوا لقصفي”. لقد قتل وظل المسؤولون الأمريكيون ينفون علمهم بوجوده في القافلة.
 تقيد الفيلم بالسيناريو المعلن” تغير التحالفات وكواليسها” وسار على هذا الخط حتى النهاية فلم يبد الحرب الليبية ولا ضحاياها ولامسيرتها إلأ بما يخدم فكرته وكان تركيزه عليها وابتعاده عن التشتت بالتطرق إلى قضايا أخرى، رغم أهميتها، نقطة تحسب للعمل.

المطاردة القاتلة لبن لادن

أما الفيلم الوثائقي الثاني وهو من انتاج ألماني أمريكي فقد عرضته آرتي المحطة الفرنسية الألمانية وهو  من إخراج ليسلي وودهد وتاليا تيبون.
“العدالة أخذت مجراها” كانت عبارة الرئيس الأمريكي أوباما عند إعلانه عن مقتل أسامة بن لادن على يد قوات أمريكية خاصة. جاء هذا عشر سنوات بعد إعلان جورج بوش مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر” اريد بن لادن حيا أوميتا”. اعتبرت العملية “نصف فشل”، فلما استغرق القضاء على ” العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية” كل هذا الوقت من هذه “الدولة العظمى” رغم كل ما بذلته من جهود وأموال؟ هذا ما يحاول الفيلم الإجابة عليه.
تبدو الإجابة الأولى في كشف غياب التنسيق الفعلي بين مؤسستين استخباريتين السي آي ايه والاف بي آي، وفي تأخر اتخاذ القرار على مستوى الرئاسة في القضاء على بن لادن في بداية ظهوره.
يركز الفيلم عبر شهادات غنية ومراجعة للأرشيف غير المنشور لوكالات الاستخبارات الامريكية وللبنتاغون، على أن تأسيس القاعدة تم دون أن تلحظه السي آي ايه، وكان لأهداف واضحة: تحرير فلسطين ونشر الإسلام والتغلب على الغرب.  بعد طرد بن لادن من السعودية، يلجأ إلى السودان في 91 حيث تنتبه أمريكا له بعد تحول الخرطوم إلى “عاصمة الارهاب العالمي”. هنا يعترف رجال السي آي ايه بوجود تردد وصعوبات واجهتهم لتوقيف بن لادن في الخرطوم رغم تحديه المتزايد للقوى العظمى. لكن بعد اعتداءي نيروبي ودار السلام و فتاوى بن لادن باعلان الحرب على الولايات المتحدة في 96 و98 بات الصراع عالميا وشعرت الولايات المتحدة أنها في حرب فيسمح كلينتون، إنما بدون امر رسمي، بالقبض على بن لادن. محاولات فشلت كلها كما نعرف وهذا رغم التمكن من تحديد موقعه في أفغانستان بفضل التعاون مع القائد الأفغاني شاه مسعود، وتوفر فرص كثيرة للقضاء عليه. لقد كان ثمة تردد في فعل ذلك لأسباب سياسية يتطرق إليها الفيلم بالتفصيل.
تؤكد شهادات مسؤولين أمريكيين أنه قبل أحداث 11 سبتمبر لم تكن حقا ثمة ردود على ما يفعله بن لادن، وكأن ما يجري “مجرد سرقة سيارة”! كما أن  التنافس بين السي آي ايه وبين الاف بي آي، التي كانت تسعى لتجميع براهين ضد بن لادن صالحة للقبول في المحاكم الامريكية، أدى إلى حصول أخطاء واعتراف المسؤولين الأمريكين بفشلهم لاسيما في مهمتهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الذي” كان يمكن تجنبه” بحيث عد ” نقص في أداء النظام”. فعلى الرغم من ورود تقرير في آب 2001 للرئيس عن نية بن لادن ضرب الولايات المتحدة الأمريكية، أدى عدم تسليم معلومات كانت بحوزة السي آي ايه منذ نوفمبر 2000 عن مرتكبي الاعتداءات إلى الاف بي آي إلى ما حصل. ود دفع حرب الأقسام الاستخبارية هذا، لاصدار قانون جديد في الولايات المتحدة تتشارك فيه كل الاقسام في المعلومات.
لقد جرت محاولات عديدة للقضاء على بن لادن بعد سقوط كابول منها القصف العنيف الذي تعرضت له منطقة تورا بورا، حيث استخدمت فيه  أضخم وأثقل قنبلة في العالم وكانت استخدمت للمرة الأخيرة في فيتنام، وكشف الفيلم عن رسالة راديو أرسلها بن لادن لرجاله يبدو فيها نادما ويدعوهم للاستسلام فيما غادر هو إلى باكستان.
أما ملابسات العملية النهائية فقد اشار الفيلم إلى “الرسول الكويتي” لبن لادن الذي جاء ذكره لأول مرة في غوانتانامو عام 2007، وبعد تحريات تم التعرف على سيارته عام 2010 وجرت مراقبتها حتى توقفت في باكستان أمام منزل من 3 طوابق. تمت مراقبة البيت وبقي الامر سرا حتى النهاية، ولم يعلم به سوى اثني عشر  شخص فقط. إلى أن قرر الرئيس أوباما خيارا من ثلاثة  الهجوم من قبل قوى خاصة أو القاء صاروخ على البيت أو الانتظار لمعلومات إضافية. فاختار الأول. لقد بين الفيلم صورا خاصة تبين متابعة المسؤولين الأمريكيين لفريق الكوماندوس وبقائهم لمدة 15-20 د على جهل تام بما يجري. لقد كان “انجازا كبيرا “ولكن ليس مرضيا الوصول إليه بعد هذه المدة باعتراف المسؤولين.
يطغى في هذه النوعية من الأفلام محتواها “الغني” الباحث عن الموضوعية على ما عداه، لكن السيناريو المحبك والايقاع المضبوط يجعلان الوصول إلى المعلومة مشوقا. افلام كهذه توثق التاريخ القريب، هذا الذي عايشه المتفرج،  يصبغ عليها اهمية إضافية، إنما كذلك صعوبة مضاعفة تفرضها مقارنة دائمة بين ما هو “معروف” وما هو” معروض”. 


إعلان