مهرجان الأفلام القصيرة في بانتان (فرنسا)
صلاح سرميني ـ باريس
كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة في فرنسا (وأوروبا بشكلٍ عام) تستحقّ الاهتمام، والمُتابعة، ويتوّجب على الناقد السينمائيّ الفضوليّ استنساخ نفسه كي يتمكن من ملاحقتها.
بالنسبة لي، هناك مواعيد لا يمكن الاستغناء عنها، وفي مقدمتها المهرجان الأهمّ، والأشهر الذي ينعقد سنوياً في مدينة كليرمون ـ فيران نهاية شهر يناير، وبداية فبراير(كان الفيلم القصير كما يُقال عنه)، والثاني، مهرجان الأفلام القصيرة في ضواحي “سين سان دوني”/ بانتان، والمُسمّى إختصاراً (Côté Court)، وينعقد في بداية شهر يونيو من كلّ عام.
قبلهما، بينهما، وبعدهما، تتوالى مئات المهرجانات المحلية، الوطنية، والدولية للأفلام القصيرة (أكثر من 500 مهرجان)، وهذه فرصة اليوم كي نتوقف عند مهرجان بانتان، ونتساءل عن أهميته طالما يأتي زمنياً بعد مهرجان كليرمون ـ فيران.
مهرجان الأفلام القصيرة في “سين سان دوني” بانتان يختلف تماماً في طبيعته، توجهاته، وخطته البرمجية، وهو يستقبل أفلاماً فرنسية بالدرجة الأولى، ويميل كثيراً في اختياراته إلى الأفلام التي يتوضح فيها نفساً جديداً، وتجديدياً، ويُعتبر بحقٍّ مكاناً للاكتشاف، وإعادة الاكتشاف، صحيحٌ بأنّ مهرجان كليرمون ـ فيران يتباهي بمُسابقاته الوطنية، المُختبر، والدولية التي جمعت 170 فيلماً في دورته الأخيرة، ولكن مهرجان بانتان يقدم قراءةً مختلفة، ومركزة لحصاد الإنتاج الفرنسيّ للأفلام القصيرة في عامّ، وينقبُ في حاضرها، وتاريخها بحثاً عن لقى منسية .

يجدر الإشارة أيضاً، بأنّ الأفلام التي يتمّ اختيارها في مهرجان كليرمون ـ فيران ليست بأيّ حالٍ من الأحوال صورةَ شاملةً تعكس زخم، وتنوّع المشهد السينمائيّ للأفلام القصيرة، ويتحتم علينا التأكيد، بأنّ مجموعة من الأفلام حصلت على المكانة التي تستحقها في كليرمون ـ فيران، ويأتي بانتان بعده كي يمنح الاعتبار لأفلامٍ أخرى لم تجد لها مكاناً في المهرجان الأسبق، ورُبما انتهى مخرجوها من إنجازها بعد تاريخ نهاية التسجيل، وهذا يعني، بأننا سوف نشاهد في بانتان أفلاماً افتقدناها في كليرمون ـ فيران، وأكثر من ذلك، سوف نتعرف على أفلام أخرى شُوهدت بعيونٍ متفحصة من طرف لجنة اختيار مختلفة التكوين، ورُبما صعبة المراس، وأكثر تطلباً، وجرأةً في اختياراتها.
وهذا لا يعني مطلقاً، بأنّ اختيارات مهرجانٍ أفضل من الآخر(وهو الصراع الدائر بين المهرجانات الخليجية حول الأفلام العربية)، وحتى لا يدّعي أحدهما بأنه استحوذ على “زبدة” أفلامٍ لم يلتقطها المهرجان الآخر، لا يوجد هذا التنافس المُهلك بين المهرجانيّن، لأنه، ببساطة، كلّ الأفلام مرت مُسبقاً أمام عيون لجان اختيار كليرمون ـ فيران، وانتقت منها ما يناسب أذواقها، ونفس الأفلام، وأكثر ذهبت إلى لجنة اختيار مهرجان بانتان، وانتقت بدورها ما يناسبها، وإذا تكررت بعض الأفلام في المناسبتيّن، لن يصيح أحدهما بأنه أول من اكتشف هذا الفيلم، أو ذاك، وعرضه في مهرجانه، الفيلم المُلفت للإنتباه يكشف عن نفسه، ولا يحتاج إلى من يجمع البطولات السينمائية على حسابه.
ومن هنا تأتي أهمية المهرجانيّن (كليرمون فيران، وبانتان)، وكلّ المهرجانات الأخرى المُتواجدة في فرنسا، حيث الواحد منها يتبع الآخر في هارمونية ثرية، ونزيهة، تصبّ في صالح السينما، المتفرج، والحياة الثقافية، وكلّ مدينة تتباهى بحصتها من المهرجانات المختلفة في خصوصيتها.
تماماً كما الحال عندما يهتمّ أحدنا بالأفلام القصيرة أكثر من التسجيلية، والروائية الطويلة، ويكتب عن السينما التجريبية، والهندية (مع أنهما تجربتان مختلفتان في التذوق السينمائي)، ويحصل على مكانةٍ ما في الثقافة السينمائية العربية، مهما بلغت أهميتها، من هذه التوجهات النقدية، والتنظيرية بالتحديد.
وبعد تلك المُقارنة العامة بين مهرجانيّن، كانت النتائج لصالحهما معاً، تتحول هذه القراءة التمهيدية إلى عرض الملامح الأولية للدورة الـ 21 لمهرجان الأفلام القصيرة في “سين سان دونيّ/بانتان، والتي سوف تنعقد خلال الفترة من 6 إلى 16 يونيو 2012.
عشرة أيام تنضح ببرمجةٍ زاخرة
مسابقة للأفلام الروائية القصيرة (25 فيلماً)، وثانية للأفلام التجريبية، التجربة، والفيديو آرت (26 فيلماً)، ويمكن اعتبار المُسابقتيّن معاً منصةً للسينما الفرنسية الشابة، تُقدما للمتفرج اكتشافات جميلة، وحاذقة في أشكالها، أو كتابتها، وينتظر مخرجوها جوائز عديدة، ومنها جائزة تمنحها المنطقة الإدارية “سين سان دوني” للفائز، وقدرها 20 ألف يورو موجهة لتمويل مشروع إخراجيّ جديد(وهو الأمر الذي غاب عن مسابقات المهرجانات العربية التي تمنح جوائزها، وكأنها تُوزع هباتٍ على المخرجين، والمنتجين).
تمتلك مسابقة الأفلام التجريبية خصائص مشتركة، وهي في مجموعها تُثري الجماليات السينمائية، وتزيل الحواجز بين الأنواع.
وتُضاف البانوراما إلى المُسابقتين، هي كالعادة، بدون جوائز، 34 فيلماً قصيراً تمّ اختيارها من مجموع 1150 فيلماً مُسجلاً تُجسد حيوية المشهد الفرنسي للأفلام القصيرة في تنوّعه الأكثر اتساعا، من الروائي إلى التسجيلي، مروراً بالتحريك، والتجريبي.

في هذه الدورة، يوجه المهرجان بؤرة عدسته نحو الفنان “جان ـ كلود تاكي”، وبحضوره، يسمح بجولةٍ في أعماله بمُصاحبة إنشاءات، أو تجلياتٍ من الفنان نفسه، هو موسيقيّ، ومهندس صوت، أخرج أفلاماً قصيرة قبل أن يقدم في عام 2005 على إنجاز فيلمه الطويل (AURORE / Number 9)، تتمحور أفلامه حول تيمة الغياب، وهي تُعرض في صالات السينما، كما في مراكز الفنون، وفي عام 2010 أنجز فيلمه الطويل الثاني (Sotchi 255) والذي يُعرض حالياً في الصالات التجارية الفرنسية.
ويمنح المهرجان برمجةً حرة “كارت بلانش” لكلٍّ من نيكول برينز، إيزابيل، وجان ـ كونراد لوميتر،
ومن بين البرامج المثيرة للفضول، واحدٌ بعنوان ” Double-Bande “، هو مصطلحٌ سينمائيّ يعني، بأنه، ولأسبابٍ اقتصادية، لم يتمّ مزج شريطيّ الصورة، والصوت معاً في شريطٍ واحد، والبرنامج الذي تخير هذا المُصطلح عنواناً، تتوازى فيه أعمال فرقة الروك “فياسكو” مع الموسيقي “كريستوف شاسول”، تتقاطع فيها الأنواع، والأشكال، بين الموسيقى التجريبية، والتجليات السينمائية، وتعتبر هذه الأمسيات تجارب تقدم لأول مرة عن العلاقة بين الصوت، والصورة.
هناك برنامجٌ آخرٌ يحمل عنوان “شاشات حرة”، يقدم عملاً سينمائياً لكلٍ من ��اريلين نيغرو، كاترين كورنينجر، ونيكولا رييّ .
وتتوالى البرامج المُشهية: أفلامٌ للأطفال، ستوديو (Aardman)، معرض برنار بلو، برامج بالتعاون مع مؤسّسات، وجمعيات مختلفة، قراءة سيناريوهات، ملتقى الممثلين، لقاءات مؤلفي الموسيقى الشباب.
وكما كتبتُ أعلاه، مهرجان الأفلام القصيرة في “سين سان دوني”/بانتان موعدٌ سينمائيّ لا يمكن نسيانه، التخلي عنه، أو تجاهله.